غزة الشهيدة الشاهدة وصناعة المشاهد – سحر الخطيب

إنها قرابة 5 أشهر، 150 يوما، 3600 ساعة 216000  دقيقة، 12960000 ثانية، لأن الثانية تمر مرور الدهر في حال الحروب و النوائب، لأنه في ثانية أو في أقل من ثانية، يتم قصف و تدمير أحياء سكنية، فتتطاير الحجارة معانقة أجساد وأشلاء الشهداء كأن الأرض لا تريد أن تتخلى عن أصحابها حتى بعد مغادرة هذه الدنيا الفانية إلى دار الخلد الباقية وتتهاوى الأبنية من فظاعة و هول اللاإنسانية والوحشية المقيتة التي لم ولا تحقن دماء الطفولة وجرعت النساء وكبار السن المذلة و لإهانة ناهيك عن مرارة الفقد، وبترت أطراف وأعضاء المصابين وروعت أنفس المكلومين من غياب الأمن والأمان وانعدام الملجأ والمأوى ونسف الممتلكات والأحلام.

إن لم تكن كل ساكنة غزة تعاني من الإعاقات البدنية، فمن المؤكد أن الجميع يرزح تحت عبء الاضطرابات النفسية التي يتصدى لها الغزيون ببلسم القوة الإيمانية التي صقلت صقلا لديهم. فالتربية الإيمانية الراسخة والعميقة هي سر قوة وصمود أهل غزة.

ففي غزة، من لم يستشهد من جراء القصف، استشهد تحت الأنقاض، ومن لم يستشهد تحت الردم، استشهد جوعا أو ضحية الأوبئة نظرا لانعدام العلاج وبسبب تدمير المستشفيات والحصار الذي يمنع دخول الوقود الضروري لتشغيل الأجهزة الطبية وكذا بسبب ندرة اللوازم الطبية. فحق لغزة أن تنال رتبة الشهادة بامتياز، وإن كان من وسام يقلد فلن ينازع غزة فيه أحد.

 وقد صدق الشاعر علي عمران حين قال:

لا لا تقُلْ سَقَطَ الشَّهيدُ وإنَّما

قُلْ قَـامَ يفتَحُ شُرفَةَ الإصبَاحِ 

قُلْ قَـامَ يُرجِعُ للبلادِ زئيرَها

قُلْ قَـامَ يقطَعُ دابَرَ السَّفَّاحِ 

قُلْ قَـامَ يقتلِعُ الظَّلامَ بِسيفِهِ

وبِصهْلَةٍ مِنْ مُهْــرِهِ المُجتَاحِ 

وبِعزمِهِ المُجتَثِّ مِنْ حِمَمِ اللَّظَى

أمضَى، وأفتكُ مِنْ أشدِّ سِلاحِ

من غزة الشهيدة، تتجلى لنا غزة الشاهدة، شاهدة قلبا وقالبا على زيف الحقوق والحريات التي ينادي بها المنتظم الدولي، تعاين الشعارات الرنانة التي لا أثر لها على أرض الواقع، شاهدة على إفلاس الأقوى الذي يضرب بعرض الحائط ليس فقط القوانين بل الحقوق الأساسية للإنسان، شاهدة على سيادة الباطل والزور، فكشفت المتآمرين والمتواطئين والمتخاذلين والمثبطين. وفضحت أعلى سلطة قضائية دولية: المحكمة الجنائية الدولية التي لم تستطع حتى النطق بإيقاف فوري لإطلاق النار ولا بإلزام إدخال الإمدادات الإنسانية وكأنها أعطت مهلة لا لتوفير الأدلة ولكن لإنهاء ما تم البدء به من تقتيل وتجويع وتهجير وتعذيب.   

أما نحن، فنرقب بحرقة وعن بعد، يعتصرنا الألم ويفتت كبدنا الأسى، نحن شهود أيضا بالمباشر على أضخم وأسرع إبادة جماعية وأبشع تطهير عرقي، يعاينهما العالم في صمت حقير وعدم اكتراث مشئوم، إبادة جماعية وتطهير عرقي تشنهما “القوى العظمى” مجتمعة بعددها وعتادها، بطائراتها وبوارجها على قطاع لا تتجاوز مساحته 365 كلم مربع و يبلغ تعداد ساكنته,048  2 مليونين نسمة.

ونحن نشاهد بالبصر الأحداث الجسيمة التي لم يكن لإنسان عاقل أن يتخيلها فإنا نشهد بالبصيرة أن غزة الشهيدة تقوم بشهادة الحق في الله سبحانه وتعالى حق قيامها حتى الموت ومن هذه المشاهد المروعة، صنعت غزة الشهيدة الشاهدة مشاهد رائعة: ستخلد ذكراها في العالمين، مشاهد تحضرها الملائكة والأبرار من الناس، مشاهد تؤدى فيها نسك العبودية الحقة لله تعالى، مشاهد تقر بالدلائل على محورية الإيمان بأركانه كلها من إيمان بالله و إيمان بالقدر خيره وشره وإيمان بالغيب في غزة، مشاهد خيالية من الصبر و الاحتساب والأمل والصمود والتحدي، لم نشهدها إلا في قصص الأنبياء والصحابة رغم الابتلاءات التي نزلت بهم. إلا أن في حال غزة اجتمعت الابتلاءات من تهجير ونزوح، وقصف وترويع وهدم وتجويع وفقد وتعذيب وإذلال ونقص في الأنفس والأموال والثمرات ……ونادرا ما يحدث ذلك في آن واحد لبني البشر.

صنعت غزة مشاهد ولا أعمق ولا أطهر، أول مشهد يدهش في غزة هو مشهد التشبث بالحق في الوجود. منذ 75سنة والجهود الخسيسة تبذل بهدف طمس الهوية والذات العربية الإسلامية والسعي الحثيث لحصرها وتقزيمها في قومية ضيقة، إلا أن مشهد التشبث بالحق في الوجود مكن من تمليك العالم والإنسانية جمعاء الدفاع عن ترسيخ الوجود والذات العربية الإسلامية حتى بين يهود العالم من ذوي الضمائر الحية. بل تنادي الشعوب بتحرير فلسطين وهناك من طالب منهم بإنهاء الوجود الصهيوني على أرض فلسطين من النهر إلى البحر.

مشهد مذهل آخر ينبثق من تحت الأنقاض ومن بين الجثامين صنعته غزة بكل شجاعة ومثابرة. مشهد صدق الانتماء، الانتماء للدين وللأرض وللأسرة وللوطن وللأمة.

الانتماء حق مكفول للإنسان بالفطرة، فهو حاجة أساسية ينميها منذ الطفولة ويدافع عنها طيلة حياته، الأرض انتماء، الدين انتماء، الأسرة انتماء والعقيدة انتماء. وقد كفلت الشرائع السماوية قبل القوانين الوضعية هذا الحق وجعلت الدفاع عنه والموت من أجله من مقاصدها الكبرى. وعاشت الأمم حروبا تحريرية للدفاع عن أرضها وحريتها وحقها في العيش الكريم.

وجاءت قوانين الأمم المتحدة لتكفل حق الدفاع عن النفس وحق التحرر والتحرير من ربقة المعتدي الظالم. إلا أن الأمم المتحدة، بعد فشلها في تطبيق العقوبات على الانتهاكات الخاصة بالدفاع عن هذا الحق، ومنذ 17 عاما من بدء الحصار على غزة ومؤخرا منذ اندلاع العدوان، سقط قناعها المزيف وفندت ادعاءاتها بالدفاع عن حرية الإنسان وحقوق الإنسان. وسقطت شر سقطة، لا سبيل للنهوض منها لأنها كشفت الزور والزيف والبهتان الذي يمارس على الشعوب المستضعفة.

نشهد، اليوم، دفاعا مستميتا عن هذا الحق في الانتماء. ففلسطين أريد ويراد لها أن تقتلع اقتلاعا من هذه البقعة من الأرض، أن تشتت وتهجر أسرها، أن تباد إبادة لم يشهد التاريخ مثلها، أن تترك عقيدتها ودينها بترك مقدساتها وثوابتها. وإنها لتؤدي الغالي والنفيس في سبيل الحفاظ على هذا الحق: حق الانتماء.

وها نحن نشاهد ذلك بالصوت والصورة على المباشر في تغطية حصرية قامت بها الشعوب ووسائل التواصل لحشد الدعم والنصرة لرافعة حياة الأمة، غزة العزة. 

من مشهدي التشبث بالحق في الوجود ومشهد صدق الانتماء، ننتقل إلى مشهد العزة والكرامة، غزة غزت القلوب والأفئدة : فقد صاغت سمو الانتماء، فارتقت به من الصدق إلى السمو، فلا يكفي أن تكون صادق الانتماء بل يتعين أن يكون هذا الانتماء أغلى و أعلى من أي شيء آخر. فسمو الانتماء جعل التضحيات الجسام التي بذلها الغزيون فداء لما ينتمون إليه، فاستصغروها رغم الجراحات والعذابات العظام ولهذا، شاع مصطلح “معلش، كله فدا فلسطين”.

إن إخوتنا الغزيين قهروا العدو بجميع المقاييس، فرغم كل ما سلب المحتل المختل و من يساندوه منهم قهرا وعنوة: الحياة، الأبناء، الممتلكات، الصحة، المال، الأمان، السلم، الطعام، الدواء، الأسرة،… إلا أنه لم يتمكن مطلقا من سلب إيمانهم أو انتمائهم، فهذا الانتماء مقاوم للسلب، متجدد، يتقد من جديد كلما حاولوا إطفاء جذوته.   

أخيرا وليس آخرا، غزة تصنع مشهدا مشرقا للإنسان المتفرد الأنموذج ذي العقيدة الراسخة والمبادئ السامقة يحبذ أن يموت من أجلها على أن يعيش بدونها. فيصبح أقوى من الأسلحة الفتاكة والجنود المدججين، وأربط جأشا في وجه “ما تحمله حقبة العولمة، من هـيمنة واستلاب ثقافي وحضاري، إنه إنسان الحق، إنسان الواجب، إنسان الفكرة، المحتسب، المنتج وليس إنسان الغريزة الذي لا يرى إلا حقوقه في الاستهلاك، حتى بات تحديد مستواه رهينا بمدى استهلاكه”[1]، وليس إنسان المصالح والحسابات التي هي، في اللحظة الراهنة، موجهة المعارك والتحركات والتحالفات للأسف الشديد! 

مشاهد مبهرة تنحتها غزة ليس نظريا بل عمليا، رغم التضحيات الجسام و الآلام العظام التي تخر لها الجبال الراسيات في عصر اللاإنسانية الذي ازدهر فيه الذكاء الاصطناعي وتنامى، في حين أن الذكاء العاطفي والذكاء الاجتماعي تراجع القهقرى. فأتت غزة وأحداث غزة لتعيد للإنسانية إنسانيتها ولتجعل الشعوب والضمائر الحية تتظاهر من أجل الحرية والكرامة. وليس من المستبعد أن يحذو حذوها عشاق الحرية والكرامة فيحررون العالم أجمع من تحكم الطغاة وسطو الرأسمالية المتوحشة وتغول الإمبريالية الكاسحة وإن غدا لناظره لقريب.

[1]  عمر عبيد حسنة

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى