تأملات في سورة “الكافرون” – نورالدين قربال

بسم الله الرحمن الرحيم “قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين”.

ترسم سورة “الكافرون” منهج حياة للفرد والجماعة، فهي منهج لسلوك منضبط لعبادة الله من أجل الفوز بمرضاته. ولها امتداد أفقي وعمودي في الدنيا وترقي في الآخرة. والكفر لغة الستر والتغطية. والدلالة اللغوية تقربنا لدلالة المعنى، أي أن الكفر هو إخفاء وتغطية الحق بالباطل. وهذا قمة الجحود المبني على التكبر والتدني في الاعتراف بالوحدانية والرسالة.

إن الهداية الربانية اقتضت أن يصنف علماء الأمة الكفر إلى نوعين: كفر عقدي وهو الأشد ألما والكفر العملي هو الأشد أملا. فالأول قطع الصلة مع الملة، والثاني انحراف داخل الملة ومن تم فهي سورة توحيد العبادة. وورد في القرآن الكريم مناداة الكافرين مباشرة “يا أيها الكافرون” ليسا ذما وإنما تنبيها حتى يتخلوا عن أمر الإنكار ويعودون إلى التوحيد الذي هو المرجع القيمي لأحكام الشريعة والشعيرة، لأن جميع المخلوقات تعيش في الدنيا تحت سقف رحمة الرحمان التي خصت بها كل المخلوقات ورحمة الرحيم كنز للمومنين يوم القيامة استثناء ولكل مقام مقال.

و”أيها” للبعيد أي من ابتعد عن التصديق ووقع في العناد، ويريد منه النص القرآني العودة والأوبة. وتكرار “لا” تفيد تباين المنهج الاعتقادي بالتوحيد والرسالة والإنكار رغم العيش المشترك الذي يجمع الشعوب والقبائل من منطلق ضرورة التعارف الإنساني، والمصالح المشتركة. فالآيات الكريمات في السورة تجيب عن أسئلة عقدية جوهرية نحو: من المعبود بحق؟ كيف يعبد المعبود بحق؟ إذن هناك اختلاف بين جوابين عن سؤالين: من وكيف؟ ويتجاذب كلمة الدين تياران: أولهما عبادة الله العلة من مقصد الوجود البشري، والتنكر لهذه الحقيقة وهو التيه في الحياة حتى الممات. وأطلق الدين على الجزاء والجزاء من جنس الاعتقاد والعمل والأمر متعلق بالإثبات أو النفي.

لقد أعطى الرسول عليه الصلاة والسلام لهذه السورة أوسمة كثيرة، فهي تعادل قراءة ربع القرآن. وتقرأ في ركعتي الفجر مع سورة الإخلاص، كما تقرأ في صلاة الشفع. وهي سورة مكية لأنها مؤسسة لمنهج قويم يفرق بين الحق والباطل. لذلك سموها سورة الدين والعبادة. والعبادة تشترط الصواب والإخلاص. وهذه الحقيقة ثابتة وليست متغيرة. ونزلت نتيجة تفاوض بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبعض المنكرين الذين طرحوا تقسيم العبادة في الزمن أو تقسيم الزمن في العبادة كما ذكر الشعراوي في خواطره. لكن الرد كان واضحا “لكم دينكم ولي دين”. وبالتالي فالمسلمون يعبدون الله بمنهجه.

والمنكرون يعبدون ما يعبدون بإرادتهم. فمن هو أحق بالإقلاع مما يفعل؟ إذن فالرسول عليه الصلاة والسلام مبلغ صاحب رسالة ربانية. وكلمة قل توحي بأنه كلف بالتبليغ وليس له من الهداية شيء، كما أن شياطين الجن والانس يقومون بالتزيين وليس لهم من الغواية شيء. والإيمان جبلي وفطري وأصيل منذ بداية الخلق، والكفر والإنكار استثناء. ولا يغلب الاستثناء الأصل.

ومن سلك المنهج الرباني ارتوى في عالم الآدمية، ومن أنكر تمرغ في الأذى والضلال والشقاء والضنك. لأنه أصيب بالغفلة فارتفعت أمانة الاعتقاد بالعبادة والرسالة. ويبقى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنهج مقاصدي حكيم تنبيه للغافلين من أجل الأوبة والرجوع إلى المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى