علماء القرويين القضاة .. من زمن الأدارسة إلى العلويين (9)

8 – العلماء القضاة في عهد العلويين

تنقسم هذه المرحلة إلى قسمين: النظام القضائي قبل الحماية والنظام القضائي في عهد الحماية.

1 النظام القضائي قبل الحماية

 تمتد هذه الفترة من نشأة الدولة العلوية بالمغرب إلى إقرار نظام الحماية، أي زهاء قرنين ونصف. كانت السلطة القضائية العليا من اختصاص أمير المؤمنين، إلا أنه نادرا ما كان يتدخل في غير الجنايات الكبرى والجرائم السياسية، وعلى العموم احتفظت السلطة القضائية باستقلال كبير عن السلطة السياسية، وظلت تتأرجح بين التبعية والاستقلال، حسب ولاة الأقاليم والقياد في بعض المناطق، الذين وسعوا سلطاتهم على حساب سلطة القاضي.[1]

يوجد في أعلى السلم القضائي قاضي الجماعة، ويتم تعيينه بظهير؛ ولا زال هذا اللفظ مستعملا حتى يومنا هذا بالنسبة لكل القرارات التنظيمية والشخصية التي تصدر عن القصر الملكي. ويستقر قاضي الجماعة بالعاصمة، وكان للمغرب في هذه الفترة ثلاث عواصم، وهي فاس ومكناس ومراكش، لكل عاصمة قاضي جماعة، لأن السلطان ينتقل فيما بينها.[2] ومن القضاة الذين تولوا هذا المنصب:

– الفقيه أبو مدين المكناسي، عين قاضي الجماعة في عهد المولى إسماعيل، وقيل عنه إنه كان : أخطب أهل زمانه.

– الفقيه محمد بن العياشي، تولى منصب قاضي الجماعة في مراكش في عهد المولى إسماعيل، قيل عنه إنه “يبحث في الفتوى فيجيب بالعجب العجيب، يُحَكم القياس، ويحفظ النصوص، وله عقل راجح، سريع الحركة في الرأي والجسم.[3]

– الفقيه عبد العزيز البوعبدلي، تولى القضاء في عهد السلطان محمد الثالث.[4]

ويتولى على العموم  قاضي الجماعة بتعيين أو عزل قضاة المناطق التي ترتبط بالعاصمة، ويتم تعيين هؤلاء القضاة أيضا بظهير.

 وكان سلاطين الدولة العلوية إلى عهد الحماية يعتبرون القاضي نائبا عنهم، وكانوا يسندون هذه الوظيفة السامية إلى العلماء المتضلعين في العلوم الإسلامية وخاصة علم النوازل والأحكام.[5] وينص الظهير الملكي الذي يعين القاضي على مدى استقلاليته في اتخاذ الأحكام وفقا للشريعة الإسلامية، وتُحَدد مهمته في كونه “يطالع الرسوم ويفاصل الخصوم ويحكم في القضايا الشرعية بما أراه الله فيها، يلتزم بالشرع اتجاه المسلمين وغيرهم. وعليه أن يتحرى ويلتزم المشهور من مذهب مالك وعلى العامل أن يسهل مهمة القاضي ويحترم قراراته”.[6]

وكان عزل القضاة يتم في ظروف سياسية محددة بسبب الموافقة أو رفض تولية عاهل دون آخر، أو لاتخاذ الفقهاء القضاة موقفا معارضا لسياسة المخزن في قضية معينة، ولكنها تبقى حالة ظرفية محدودة. فقد عزل مولاي عبد الله بن إسماعيل جميع القضاة والخطباء الذين خطبوا باسم أخيه السلطان المستضيء بن إسماعيل الذي انقلب عليه.[7]

كان الولاة يتوفرون على حق النظر في الجنايات والجنح المتعلقة بالأمن العام في المدن والبوادي والطرق، وينظرون في السرقات والنزاعات وأعمال العنف التي لم تعد من اختصاص القضاء الشرعي. وبقاء المتهم بالسجن يمكن إنهائه بأداء غرامة مالية، ومن ثم لم يكن الأثرياء يعاقبون عقابا صارما.[8]

وتعتبر الفتوى وظيفة رسمية، ويتوفر صاحبها على اطلاع فقهي واسع يشمل الأصول و الفروع، ويكون على اطلاع بالأعراف والتقاليد المحلية، واعتبرت الدولة العلوية أن الفتوى تصون وتشيع المعرفة الفقهية وتحفظ الأحكام الشرعية، والمفتي أوسع فقها من القاضي، ويتقاضى أجره من الأوقاف ومن المستفيدين عن كل فتوى، وقد جمع بعض العلماء بين القضاء والفتيا.

وقد نتج عن تقليص السلطة القضائية منذ عهد الوطاسيين وتحويل اختصاصاتها في الأحكام والعقوبات إلى السلطة الإدارية جور الولاة وظلمهم للرعية، وقد أرسل الفقيه القاضي اليوسي مذكرة شديدة  إلى السلطان المولى إسماعيل يقول فيها: “إن الجور يثبت معه الملك ولا يستقيم، وأن العدل يستقيم معه الملك ولو مع الكفر. وقد عاش الملوك من الكفرة المئين من السنين في الملك المنتظم والكلمة المسموعة والراحة من كل منغص، لما كانوا عليه من العدل في الرعية، استصلاحا لدنياهم، فكيف بمن يرجو صلاح الدين والدنيا؟”[9]

وقد عرف  القضاء المغربي كثيرا من المفتين الذين أسهموا في تدوين النوازل، وقد عرضت على العلماء القضاة المفتين قضايا سياسية طارئة لم تكن معروفة من قبل في المجتمع المغربي، وتحملوا مسؤولياتهم في اتخاذ قرار محدد وفق الشريعة الإسلامية، وبرهنوا على معرفتهم الدقيقة بالحياة السياسية، ودافعوا باستماتة كبيرة وتضحية جسيمة على حرية الأفراد وحقوق الإنسان في قضية الحراطين في عهد السلطان المولى إسماعيل. لقد اعتبر السلطان جيش الحراطين عبيدا بإشارة من كاتبه عمر بن قاسم المراكشي المعروف بعليليش، وعارضه علماء القرويين بقوة، ودامت هذه القضية طويلا ذهب ضحيتها عدد من العلماء القضاة والمفتين. كان على رأس العلماء المعارضين قاضي فاس محمد العربي بن أحمد بردلة الذي جمع بين القضاء والتدريس والإمامة والخطبة. ونتيجة لذلك كانت فاس بفضل قاضيها المدينة الوحيدة في المملكة المغربية التي لم تساهم في الحرس السود.[10]

وفي عهد السلطان محمد الثالث المشهور بسيدي محمد بن عبد الله ظهر نظام الحماية القنصلية بناء على معاهدات مع دول أجنبية ابتداء من 1763 إلى 1880، وتنص هذه المعاهدات على الامتيازات القضائية والجبائية التي يتمتع بها الرعايا الأجانب والمغاربة الذين يتعاملون مع القناصل. وأدت الإعفاءات الضريبية إلى تكاثر المستفيدين من نظام الحماية القنصلية، مما أدى إلى تضاؤل موارد الخزينة وانهارت السلطة القضائية والإدارية، حيث إن العقوبات لا يمكن تطبيقها على الرعايا الذين شملتهم الحماية القنصلية. وفقد المخزن سيطرته على جزء من رعاياه، وقد قام أحد المحميين بشتم قاضي فاس وهو من كبار شخصيات الدولة ومع ذلك لم يكن بالإمكان رد هذه الإهانة، إلا بتوجيه ملتمس إلى سفير فرنسا الذي له الحق وحده في زجر محمييه إن أراد ذلك. لقد تصدى العلماء المفتون لهذه النازلة السياسية التي أفقدت الدولة سيادتها وأدت إلى ضعفها، وقاموا بتحريم هذا السلوك الفاسد وبتكفير الشخص الذي يتمتع بالحماية القنصلية، وحمت هذه الفتاوى المغرب من التفكك. يقول جعفر بن إدريس الكتاني في كتابه “الدواهي المدهية للفرق المحمية”: “منها ظهور شعائر الكفر. وذلك أن غرض الشارع أن تكون كلمة الإسلام وشهادة الحق قائمة على ظهورها، عالية على غيرها، منزهة عن الازدراء بها، وعن ظهور شعائر الكفر عليها. وموالاتهم  تقتضي ولابد أن تكون بعكس ذلك، فهذه أعظم شعيرة من شاعر الإسلام انهدمت بهذه الموالاة، فكيف يتوقف متشرع أو يشك متورع في تحريمها، بل إنها قريبة من الكفر، أو هي هو أو هي له شريعة.”[11] وتصدى أيضا لهذه النازلة محمد بن إبراهيم السباعي الذي تولى رئاسة الفتوى بمراكش في كتابه: “كشف المستور عن حقيقة كفر أهل بسبور.” ويحكى عنه أنه كان شديد النقد للسلطة المخزنية التنفيذية “لما هم عليه من سوء السيرة ونهب أموال الرعية، مُنَبها على سوء أفعالهم ونصحهم، مخافة أن تتخرب الدولة بأعمالهم”[12] وأرسل علماء القرويين وقضاتها رسالة إلى المولى الحسن بعد تنصيبه يطالبون فيها بإلغاء الحمايات الأجنبية واعتبروها مدخلا مباشرا للاحتلال الأجنبي للمغرب.[13]

وتصدى مفتي دمنات محمد بن عبد الله الكيكي في أواخر القرن الثامن عشر، للدفاع عن المرأة وحمايتها من العنف والاضطهاد في مناطق الأطلس الكبير؛ حيث أدى غياب المخزن وعجز الدولة عن إرسال قضاة إلى البوادي إلى انتشار حالة التسيب في المجتمع، وأصبحت بعض القبائل تغير على بعضها البعض، وانتشرت بعض العادات الفاسدة في المجتمع نذكر منها:

– ظاهرة خطف المرأة بقصد الزواج منها، وقد أفتى بأنها تحرم عن المختطف تحريما مؤبدا، وذلك حفاظا على استقرار الأسرة.

– واعتبر أن هبة البنات لإخوانهم الذكور فاسدة في البلاد التي لا يوجد فيها قضاة، لأنها تدخل في باب غصب المرأة لكي تهب حقها.

وقد دون هذه النوازل في كتابه: “مواهب ذي الجلال في نوازل البلاد السائبة والجبال”.

بقلم الدكتورة: آمنة هدار

لقراءة الحلقة (8) اضغط هنا


المصادر:

[1]انظر إبراهيم، حركات، المغرب عبر التاريخ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2009، ج: 3، ص: 427.

[2]– انظر أحمد بن خالد، الناصري، الاستقصا لأخبار دولة المغرب الأقصى، تحقيق جعفر ومحمد الناصري، دار الكتب، الدار البيضاء، 1956، ج: 8، ص: 3.

[3] انظر العباس بن إبراهيم، المراكشي، الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، راجعه عبد الوهاب ابن منصور، المطبعة الملكية، ط:2، 1993، ج : 6، ص: 35.

[4] انظر المرجع نفسه، ج:8، ص:444.

[5] انظر عبد الرحمن، بن زيدان، كتاب العز والصولة في معالم نظم الدولة، المطبعة الملكية، الرباط، ج:2، ص:18.

[6] انظر، محمد، داود، تاريخ تطوان، المطبعة المهدية، تطوان، 1970، ج:6، ص:85.

[7]– انظر أحمد بن خالد، الناصري، الاستقصا لأخبار دولة المغرب الأقصى، تحقيق جعفر ومحمد الناصري، دار الكتب، الدار البيضاء، 1956، ج: 7، ص: 35-38.

[8]– انظر إبراهيم، حركات، المغرب عبر التاريخ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2009، ج: 3، ص: 427.

[9]– انظر إبراهيم، حركات، التيارات السياسية بالمغرب، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 1994، ملحق الجزء الثالث، ص: 130.

[10]– انظر أحمد بن خالد، الناصري، الاستقصا لأخبار دولة المغرب الأقصى، تحقيق جعفر ومحمد الناصري، دار الكتب، الدار البيضاء، 1956، ج: 7، ص: 109.

[11]– انظر جعفر بن إدريس، الكتاني، الدواهي المدهية للفرق المحمية بحث في السياسة الشرعية، تحقيق محمد حمزة بن علي الكتاني، دار الكتب العلمية، بيروت، 2005، ص: 185.

[12]– انظر إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2009،ج: 3، ص: 430.

[13]– انظر إبراهيم حركات، التيارات السياسية بالمغرب ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 1994|، ملحق الجزء الثالث، ص: 104.

موقع الإصلاح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى