علماء القرويين القضاة .. من زمن الأدارسة إلى العلويين (8)

7 – العلماء القضاة في عهد السعديين

نجحت الدولة السعدية في تكوين إمبراطورية قوية، وتمكنت من مقاومة التوسع العثماني في شمال إفريقيا، وكان المغرب هو المنطقة الوحيدة التي ظلت مستقلة عن الحكم العثماني في شمال إفريقيا، أصبح المغرب في عهد المنصور الذهبي قوة إقليمية طموحة، وتوسع في غرب إفريقيا وسعى لبناء العلاقات مع أوروبا.[1]

تطورت ولاية كرسي التدريس بجامع القرويين في عهد السعديين وتم اعتباره منصبا ساميا، وكان التعيين يصدر عن السلطان أو عن ولي عهده. يقول عبد الهادي التازي: “كانت ولاية الكرسي أمرا ذا بال وبالغ الأهمية، لأنه كان بمثابة ولاية حكومية لا تقل عن منصب القضاء والفتيا والوزارة، ولذلك كان الحصول عليه يستدعي عدة مؤهلات.”[2] وهذا يعبر عن القيمة الحضارية التي حظيت بها الكراسي العلمية، والرسالة السامية التي حملتها، وهي حماية الثوابت الدينية للبلاد، والعمل على نشرها بين أفراد الأمة، وتتمثل في المعاملات والمعتقدات، لقد ساهمت إسهاما بارزا في تقريب مضامين الفقه المالكي والعقيدة الأشعرية والسلوك السني.[3]

اكتسب القضاة مكانة هامة في عهد الدولة السعدية، وكان اختيارهم يتم على أساس ثقافة فقهية واسعة، وكان أكثرهم يضرب به المثل في الاستقامة والعدالة والنزاهة.[4] ولكن لم تتجاوز اختصاصاتهم الميدان الشرعي، كما كان عليه الحال في عهد الوطاسيين، وأصبحت الجنح والقضايا المدنية من اختصاصات الوالي والباشا والقائد.[5]

وظل منصب قاضي الجماعة أهم رتبة قضائية، وكان صاحبه ذا نفوذ واسع وحظوة كبيرة، تولى هذا المنصب:

– عبد الواحد بن أحمد الحامدي قاضي الجماعة بفاس في عهد السلطان محمد المتوكل سنة 970هـ، كان من فقهاء المالكية الكبار المشهود لهم بالتبحر في الفقه المالكي، حيث كان يرجع إليه في مسائله، وهو من تلاميذ أحمد الونشريسي وعبد الوهاب الزقاق. وتتلمذ عليه القاضي ابن أبي نعيم والشيخ أبو المحاسن الفاسي. وكان إماما ثقة وأعدل قضاة المغرب في زمانه، استمر في منصبه لمدة ثلاث وثلاثين سنة، إلى وفاته سنة 1003هـ في عهد السلطان المامون ابن المنصور الذهبي.[6]

– أبو القاسم بن مسعود الشاطبي قاضي الجماعة بمراكش في عهد السلطان محمد الغالب جمع بين القضاء والخطابة والتدريس، كان يحفظ البخاري الذي سمعه من السلطان المنصور الذهبي. توفي سنة 1002هـ.

– أما في السودان، فكان قاضي القضاة يستقر بتمبكتو، وينتمي في غالب الأحيان إلى المناطق الجنوبية بالمغرب، ليألف طبيعة الحياة بالسودان التي تشبه شكل الحياة بالأقاليم الجنوبية. تولى هذا المنصب أحمد الفيلالي وأحمد بن سعدون الشياضمي.[7]

أحدث الحكام السعديون مناصب جديدة في سلك القضاء:

– منصب صاحب المظالم وهو من أرفع الرتب، فهو كالوزير والحاجب، يقوم باستقبال الشكايات    وطلبات استئناف الأحكام، يمارس هذا القاضي اختصاصه بصفة دائمة. وهذه وظيفة إدارية وليست قضائية، لأن الملك أو نائبه هو الذي يبت في المظالم بنفسه. ولي هذا المنصب في عهد المنصور الذهبي الفقيه القاضي سليمان التاملي الجزولي بمراكش والفقيه القاضي ابن الغرديس الثعلبي بفاس.

– وأصبح منصب الفتوى من أسمى المناصب، وكان الملك يقوم بتعيين المفتي، ويتم تنصبه بظهير، ولا يرخص فيه إلا لذوي المروءة والدين، ومن ظهر عليه غير ذلك يعزل. وكان مجلس المفتين يعمل تارة كمحكمة عليا للنقض والإبرام وتارة أخرى كهيئة استئنافية، والسلطان هو الذي يجمع هذا المجلس عند الحاجة للنظر في قضية فقهية. وأول قاض بعد السلطان يتلقى طلبات الاستئناف هو المفتي، وكان هناك ثلاثة مفتين: بمراكش وفاس وتارودانت. ومن أشهر المفتين في هذا العصر مفتي فاس محمد القصار القيسي ومحمد بن عبد الرحمن بن جلال المغراوي، ومن الفقهاء من جمع بين القضاء والفتوى، كالفقيه القاضي المفتي محمد بن إبراهيم السباعي الحاحي مفتي مراكش، كان يجيب عن الأسئلة التي تَرِدُ عليه من كافة أنحاء المغرب لكثرة تحصيله. وتقلد منصب الفتوى بفاس الفقيه المفتي يحي السراج الذي جمع بين الفتيا والخطابة بجامع القرويين.[8]

ومن كبار علماء القرويين الذين جمعوا بين القضاء والإفتاء في الأقاليم في عهد المنصور الذهبي:

– محمد بن عرضون قاضي شفشاون، كان مستشار السلطان المنصور الذهبي، أصدر حكمه على رئيس شرطة شفشاون بالسجن لاستخفافه بالمقدسات الإسلامية، وأنفذ حكمه الوالي. وأصدر فتوى بتحريم التبغ، فأقرها السلطان أحمد المنصور الذهبي وأمر بحرق أطنان من التبغ بالبلاد.

– وأخوه أحمد بن عرضون قاضي ومفتي شفشاون، الذي سبق بفتواه جميع المنادين بحقوق المرأة بأربعة قرون، وانتصر لحق الكد والسعاية، لقد حكم هذا القاضي المجتهد للزوجة بنصف ثروة زوجها التي حققتها أثناء ارتباطه بها، وتأخذ بعده حقها في الميراث في حالة وفاة الزوج، وفي حالة الطلاق تأخذ نصف الثروة. وأقر هذه الفتوي مفتي فاس الشيخ القوري والشيخ ابن غازي[9] وعارضها آخرون. وفي العصر الحالي تحول حق الكد والسعاية من فتوى شرعية وحكم في نازلة في القرن العاشر الهجري، إلى تشريع قانوني أقرته مدونة الأسرة بالمغرب سنة 2004 ونصت عليه في المادة 49، ولا زال النقاش مفتوحا إلى اليوم. وانبهرت بعض الدول العربية بقيمة العدل التي ضمنها حق الكد والسعاية، فقد دعا شيخ الأزهر أحمد الطيب إلى تنظيم مؤتمر تدرس فيه المجامع الفقهية فتوى الفقيه المغربي القاضي أحمد بن عرضون.

تعرض المغرب في بداية حكم دولة السعديين لفترة عصيبة تتمثل في الحملة الصليبية التي تزعمتها دولة البرتغال، لقد اعتبرتها أوروبا حربا مقدسة لنشر المسيحية في شمال إفريقيا، والانتقام لاحتلال المغاربة للأندلس. وتصدى علماء القرويين لهذه النازلة السياسية، وقاموا بتأطير الشعب المغربي، وكانوا يعبئون الناس في الطرقات ويقولون لهم: “الله معنا، لا غالب لنا.” وأرسل الملك المخلوع محمد المتوكل رسالة إلى علماء القرويين يتوعدهم فيها بالعقاب والتقتيل والتنكيل، لأنهم نكثوا بيعته ونصبوا مكانه عمه عبد الملك السعدي، وقال لهم مبررا استغاثته بالنصارى: “ما استصرخت بالنصارى حتى عدمت نصرة المسلين.”[10] فتوحد علماء القرويين من قضاة وشيوخ ومفتين وعلى رأسهم قاضي فاس للرد على رسالة السلطان المخلوع. “فكانت هذه الوحدة التي عقدتها يد جامعة القرويين بفاس ردا على وحدة الرهبان المسيحيين االمنضوين تحت وحدة الفاتكان والعاملين تحت قيادته، والذين تكتلوا في كنائس إسبانيا قصد مهاجمة الإسلام في عقر داره بفاس ومراكش، وهيأوا الخطب التي ستلقى من فوق منبر القرويين والكتبية بمراكش، وحملوا الأجراس التي ستدق تدوي فوق صوامع فاس ومراكش، كما دوت فوق صومعة مسجد إشبيلية وصومعة مسجد قرطبة.”[11]

 إن الأسلوب الذي كتبت به رسالة علماء القرويين يعبر بوضوح عن تتبعهم للأحداث، ويبرهن على وعيهم السياسي للمرحلة الحرجة، وعلى معرفة فقهية وتاريخية دقيقة، وعلى دراية عالية بالسياسة الشرعية. لقد اتخذوا موقفا شجاعا ووحدوا الصفوف، فحللوا الموقف، وعللوا وأصدروا الفتوى. فخرج أحمد المنصور على رأس جيش أهل فاس وما حولها،[12] مكون من علماء القرويين وشيوخها وقضاتها وطلبتها ومن الصناع والحرفيين وعامة الشعب. وترأس الشيخ الفقيه أبو المحاسن الذي درس بالقرويين جيشا مكونا من المتطوعين من جميع أنحاء المغرب. وقاد السلطان عبد الملك السعدي الجيش النظامي. فكانت ملحمة وادي المخازن، ملحمة الشعب المغربي وفي مقدمته علماء القرويين. يقول المؤرخ البرتغالي لويس مارية عن هذه المعركة: “لقد كان مخبوءً لنا في مستقبل العصر، الذي لو وصفته لقلت: هو العصر النحس البالغ في النحوسة، الذي انتهت فيه مدة الصولة والظفر والنجاح، وانقضت فيه أيام العناية من البرتغال، وانطفأ منهم، وخلفها الفشل، وانقطع الرجاء، واضمحل إبان الغنى والربح، وذلك هو العصر الذي هلك فيه سبستيان في القصر الكبير في بلاد المغرب.”[13]   

بقلم الدكتورة: آمنة هدار

لقراءة الحلقة (7) اضغط هنا


المصادر: 

[1]– انظر إبراهيم، حركات، المغرب عبر التاريخ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2009، ج: 2، ص: 262.

[2] انظر عبد الهادي التازي، جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس موسوعة لتاريخها المعماري والفكري، دار النشر المعرفة، ط: 2، 2000، ج: 1، ص: 368.  

[3]– انظر المرجع نفسه.

[4]– انظر إبراهيم، حركات، المغرب عبر التاريخ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2009، ج: 2، ص: 342.

[5]– انظر أحمد بن خالد، الناصري، الاستقصا لأخبار دولة المغرب الأقصى، تحقيق جعفر ومحمد الناصري، دار الكتب، الدار البيضاء، 1956، ج: 6، ص: 98.

[6]– انظر جعفر، الكتاني، سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بمدينة فاس، تحقيق وتدقيق محمد الطيب الكتاني و محمد حمزة بن علي الكتاني، دار الأمان، الرباط، 2013، ج: 2، ص: 87- 88.

[7]– عبد الرحمن، السعدي، تاريخ السودان كتاب في تاريخ الإسلام والثقافة والدول والشعوب في إفريقيا جنوب الصحراء وغانة ومالي والسنغاي، تعليق وتقديم، حماه الله ولد السالم، دار الكتب العلمية، بيروت، 1971، ص: 308.

[8]– انظر إبراهيم، حركات، المغرب عبر التاريخ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2009، ج: 2، ص: 345.

[9]– انظر عيسى بن علي، الحسني العلمي، كتاب النوازل، تحقيق المجلس العلمي بفاس، 1983، ج:2، ص: 101.

[10]– يوجد النص الكامل للرسالة ولرد علماء القرويين عليها بكتاب على محمد الصلابي، الجوهر الثمين لمعرفة دولة المرابطين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط :3، القاهرة، 2003، ص: 229-228. انظر أيضا “العلماء وراء معركة وادي المخازن” دعوة الحق، عدد: 190.

[11]– انظر “العلماء وراء معركة وادي المخازن” دعوة الحق، عدد: 190. 

[12]– انظر على محمد، الصلابي، الجوهر الثمين لمعرفة دولة المرابطين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط :3، القاهرة، 2003، ص: 229.

[13]– انظر أحمد بن خالد، الناصري، الاستقصا لأخبار دولة المغرب الأقصى، تحقيق جعفر ومحمد الناصري، دار الكتب، الدار البيضاء، 1956، ج: 5، ص: 85 – 86. 

موقع الإصلاح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى