القدس، وسؤال الحلّ الديني (1) – شيروان الشميراني

القدس داخلة في الصراع الدولي ليس منذ الحرب العالمية الأولى فحسب، بل أنها متجذرة في التاريخ منذ مغادرة نبي الله يعقوب  والسفر إلى إبنه نبي الله يوسف عليهما السلام وأهله والاستقرار في أرض الكنانة ومن ثم عودتهم،  كثير من النزاعات الدولية حصل، بعد أمر الله سبحانه – موسي – عليه السلام بالعودة ببني إسرائيل الى الأرض المقدسة التي بارك سبحانه وتعالى فيها ومجيء عيسى – عليه السلام-، حروب دولية كانت تنشب، والأكثرية كانت بخلفيات دينية، فالدين حاضر  في تشكيل هوية هذه البقعة الصغيرة من الأرض منذ القدم، أقصد بالمشكلة ما يجري منذ بداية القرن الماضي من حالة إحتلال للقدس والنزاع حولها بين صاحب الأرض والمحتل الدولي، وإذا كان هكذا منذ الأول، فهل للدين من دور في الحلّ؟

 هذا ما نتحدث عنه هنا في ثلاث نقاط.

  • إنّ النص بمباركة هذه الأرض جاء من الله تعالى، في آيات نزل بها جبرئيل – عليه السلام- على قلب محمد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلم-، في الاية الأولى من سورة الإسراء { سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِى بَٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [ الإسراء: 1]، يقول سيد قطب: “ووصف المسجد الأقصى بأنه ( الذي باركنا حوله ) وصف يرسم البركة حافة بالمسجد ، فائضة عليه، وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل : باركناه، أو باركنا فيه، وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب”،  فهي إذن أرض مباركة  ليس المسجد وحرمه فقط، وإنما الأرض التي حوالي المسجد أيضاً، فالمباركة الإلهية ليست للمسجد الأقصى بما أنه بيت من بيوت الله الثلاثة التي تشد إليها الرحال بنص الحديث النبوي الصحيح، بل المباركة شاملة لحوالي المسجد أيضاً، ومن هنا سمى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- الأرض ببيت المقدس وأكناف البيت المقدس، ولا شك أن المقصد النبوي ليس المسجد بل المدينة التي تحتوي المسجد.

 بهذا المعنى إن القدس ليست أرض كأي أرض، بل لها دلالة روحية، فهي ليست بغداد ولا القاهرة ولا  أسطنبول أو الرباط، بل هي القدس، أي إن المعايير التي تحكم غيرها من العواصم لا تنطبق عليها، فالنص بخصوصيتها جاء من السماء، من الخالق سبحانه.

 هذا النص الإلهي  تدور في فلكه دلائل أخرى ترسخ مباركة الأرض:-

  • فهي القبلة الأولى للتوجه إلى الله .
  • هي ثالث المساجد التي تشد لها الرجال، ولا تشد الرحال لغيرها.
  • هي المكان الذي ورث فيه النبي وراثة النبوة منذ نزول أدم – عليه السلام- من خلال إمامته الأنبياء في الصلاة، وحكمة الله قطعت الطريق أمام المزاعم اليهودية التي يرددونها الآن.
  • هي أرض المعراج، أرض إختارها الله لتكون موقع إنطلاق رسوله والعروج للقاء خالقه.
  • ربط البراق بحائط المسجد، وقوة الرباط تأتي مِنَ الذي تولى إبرامه، وهو الملَك الشديد القوة، أي جبريل عليه السلام، إذ هو الذي أحكم ربط البراق بالحائط…فهو وثاق يجمع بين قوة جبريل أحكاماً وسرعة البراق تأثيراً[1]، ومن كل هذه المعاني تأتي الرابطة المقدسية.

 هذه الأدلة من وجهة نظر إسلامية، تعطي معنى روحياً ومعنوياً للقدس عند المسلمين متجاوزة البعد المادي، فلن يجري التعاطي معها على الأسس المادية لأرض مجردة كما هي مع غيرها، بل إن العلاقة بين المسلم والقدس والأقصى علاقة قلب وروح لا تتأثر بالحضور أو البعد الجسماني، وذلك من علم الله تعالى بأن هذا المكان لابد من ربط شعوري معنوي به لكي لا يُنسى نظراً لما يلم به من ظلم واحتلال وطرد لأهله، وما يلفه من أحداث عبر الزمن فلا يملوا ولا يتعبوا ولا يتنازلوا، وتبقى القلوب ترنوا إليه وإلى زيارته والسفر إليه، إلى يوم القيامة.

 هذه الخاصية الروحية الدينية التي تتمتع بها القدس، تجعل من كل المسلمين في كل الأرض مدعوون الى الاهتمام بها وتكون من أولوياتهم، بمعنى إن القضية لا تخص الفلسطينيين لوحدهم بل هي قضية تتجاوز  المواطنين بالمفهوم الحديث للمواطن المحصور داخل حدود دولة معيَنة، لتصل إلى كل مسلم يؤمن بأن الله بارك المسجد الأقصى وماحوله، ربما بالموازيين البشرية المستحدثة تلك الغربية التي مزقت أوصال المسلمين، بهذه الموازين هي ليست مشكلة غير الفلسطينيين، لكن لو فَعَّلنا الموازين الحقة من الأخلاقية والإنسانية والدينية التي تبقى الأصل في الإعتماد، فإنها مشكلة الجميع وقضيتهم مسلمين ومسيحيين.

  • إنَّ الاحتلال الإسرائيلي ومعه العقل الدولي الظالم الأعمى، يعمل، بناء على علمهم بما وضحناه في النقطة السابقة، وإدراكهم جيداً أهمية هذه المسألة، عملوا ومازال يعملون جاهدين على تفكيك هذه المنظومة الإنسانية الدينية التي يستند إليها الإنسان المسلم والفلسطيني غير المسلم في الصراع نحو التحرير والتحرر، واعتمدوا من أجل الوصول الى الغاية، معادلة تقوم على التعامل مع القضية نزولاً من الأممية إلى القومية إلى القطرية، وهذه المفاهيم او المنظومات الفكرية التي جاءت إلينا من الغرب أساساً.

فعمدوا أولاً إلى: إبعاد غير العرب من المسلمين من التعلق الروحي بالقدس، و من ثم خلق حاجز بينهم وبين الفلسطينيين، و لن يكون التعاون او التفاعل سوى من باب الشفقة لما يتعرض له السكان من ظلم وإضطهاد، هذا في حال الإحساس به أساساً، وإن نشر الروح القومية، والأفكار الوضعية البشرية وإحلالها محل الفكرة الإسلامية، من الوسائل التي لاقت نجاحاً وتركت تأثيراً على الصراع.

ثم عمدوا بعد ذلك الى إبعاد العرب من الفلسطينيين، بجعلها قضية قُطرية، وان النزاع لا يتعلق بأرض أي دولة عربية أخرى، وإنما هي محصورة في فلسطين، وبالتالي على الاخرين من العرب عدم النظر الى إسرائيل كعدو محتل بل كدولة لها نزاع أرض مع دولة أخرى، ومن ثم  يساعدوا الطرفين من أجل الوصول الى حلّ، أي العلاقة تكون بين الطرفين على قدم المساواة، حياديين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن هنا جاءت فكرة إقامة العلاقة مع إسرائيل من خلال الدول العربية، ثم جعل الصراع بين الكيان المحتل وقسم من الفلسطينيين، وتحويله الى مسألة إرهاب و تخطي السلطة الشرعية المتحالفة مع إسرائيل.

وبذلك حاصروا أهل البيت المقدس، وساعد بعضُ العربِ المحتَلَ على العرب الفلسطينيين في الحرب بينهما، بإعتبار أن الفلسطينيين لا يميلون الى الحلّ بل إلى القضاء على دولة عضوة في  الأمم المتحدة.

فخرج الصراع من الدائرة الإسلامية إلى الدائرة القومية إلى الدائرة الوطنية القُطرية، إلى دائرة حزبية داخلية، لكن النجاح نسبيٌ الى حدّ كبير وان كان مؤثراً، وهو محصور في الإطار الرسمي بعيداً عن الشعب إلا في نطاق محدود جداً عند أهل الغفلة. حيث نزعوا القداسة من فلسطين والأرض التي حولها كما فعلت دولة الاحتلال، تحولت عندهم الى ارض عادية، تستوي مع غيرها، لأن القدسية التي تميزها ذهبت مع التغير العقلي وغياب الأخلاق الديني والفطرة الدينية.

شيروان الشميراني عضو المكتب التنفيذي للمنتدى العالمي للوسطية، كوردستان – العراق

 

[1] ) طه عبدالرحمن، ثغور المرابطة، 38.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى