توصيات مؤتمر “فيروس كورونا “(1) – محمد روجان

مما لا شك فيه أن جائحة كورونا المستجد ستُخلف خسائر كثيرة وكبيرة في جميع الميادين (اقتصاديا، اجتماعيا، رياضيا، ….)، إلا أنها أعطت وستعطي دروس مهمة، وتوصيات ثقيلة فشلت عدة مؤتمرات ولقاءات دولية ووطنية وقوى كثيرة تتبنى الإصلاح والتغيير إرغام حكام البلدان بتنزيلها، وستُجبر  الساسة بتغيير الأولويات وإعادة النظر في السياسات الكبرى لكي يحافظوا على وجود دولهم. ومن المؤكد أن العالم كله سيحاول تغيير طريقة تسييره للأمور، ولن يكون الوضع بعد “كورونا” كما كان قبلها، وسيكون الكل مضطر بالاهتمام أكثر بعلم توقع المخاطر الكونية ووضع سياسات دولية لذلك، والعمل المشترك بين الأمم والدول بدل الأنانية المقيتة التي تستحضر مصلحة دولة على دولة أخرى، في هذا السياق، وجب على الجميع إيقاف الحروب التي تقتل الإنسان وتخرب العمران وتعويضه بالحروب ضد الأوبئة الفتاكة وكل المخاطر التي تهدد الإنسانية جمعاء.
على المستوى الوطني، فقد ظهر الوباء في الوقت الذي انتبه مجموعة من الفاعلين إلى فشل جل السياسات في جميع المجالات وخاصة الحيوية منها، فتم تشكيل لجنة للتفكير في نموذج تنموي جديد يتماشى مع التحولات الكبرى المجتمعية، إلا أن الجائحة أعفت اللجنة من عملها بعد تعرية مكامن الضعف وإبراز أهم الاختلالات المتواجدة في البلاد، والمجالات التي يجب الاهتمام بها أكثر، والوظائف التي ينبغي العناية بها  وفي أصحابها؛ وجعلها من الأولويات للإقلاع التنموي وكذا الحفاظ على كينونة الدولة والوطن ، فمن وحي دروس “كورونا”، ظهر جليا إلى ضرورة تنفيذ توصيات مصيرية، كلها ذات طبيعة استعجالية وحاسمة لتأكيد الوعي الجماعي للمغاربة بتحديات المرحلة القادمة لبناء مجتمع متماسك ووطن واعد ومتقدم، ودولة ديمقراطية دون الدخول في كثرة اللقاءات والمشاورات الماراطونية التي يتم فيها غالبا هدر الزمن والمال العام.التوصية الأولى: نشر العلم والمعرفة ومحاربة الجهل.

لقد اتجه الحديث في العقد الأخير في معظم دول العالم، خصوصا الدول المتقدمة، إلى التركيز على نوع جديد من الاقتصاد وهو اقتصاد المعرفة، فقد ورد في عدة تقارير على سبيل المثال في فرنسا أن الرهان المستقبلي هو الاستثمار في المعرفة والعنصر البشري، وهو ما يفسر الرفع من الاستثمارات العمومية في مجال التعليم والبحوث، أما في بلادنا، نجد كل التقارير الذي أعدها المجلس الأعلى للتعليم، والتي تؤكد حقيقة فشل التعليم بكافة مستوياته وأسلاكه؛ وأعتبر إصلاح التعليم ببلادنا كمدخل أساسي من مداخل الخروج من الأزمة التي عبرت عنها حينها بالسكتة القلبية، فكل مخططات التي ترمي لإصلاح التعليم لم تحقق هدفها ومبتغاها نتيجة تضافر مشكلات متعددة ومختلفة، لكن الفشل ناتج أساسا عن عدم صواب المنهجية التي اعتمدت في الإصلاح والقائمة على السلطوية والتبعية، في ملف يحتاج إلى إشراك حقيقي لكل قوى المجتمع وجرأة في اتخاذ القرار، وحسم في المرجعية وأسس دعائم الإصلاح.
إن اختلالات التعليم ببلادنا متعددة ومتنوعة، أجمعت عليها كل التقارير الرسمية وغير الرسمية، كتقرير الخمسينية الذي أصدرته الدولة، والذي اعتبر مجمل الإصلاحات التي عرفتها المنظومة التربوية وخاصة الجامعة المغربية طيلة الخمسين سنة الماضية، لم تتمكن من تحقيق أي من الأهداف التي سطرتها، باستثناء المبدأ الكمي المتعلق بمغربة الأطر التربوية، وهذه الإخفاقات ظهرت في كل الجوانب. 
هذه الإختلالات الجوهرية طفت إلى السطح في زمن كورونا، وتأكد للشعب أن التعليم هو عمود الحياة، بدونه سيبقى الإنسان يتخبط في مشاكل وظلام، وتبين له صوابية نضالات أحرار وحرائر هذا الوطن الذين ناضلوا ومازال يناضلون من أجل  مجانية التعليم وجودته. وأملي أن تغير الشعوب والأسر بعد هذه الجائحة ثقافتها وأولوياتها، وأن تجعل العلم والكتاب ضمن برامجها اليومية، فمن غير المعقول استمرار مجموعة من الأمور والتصورات الخاطئة، مثل إنفاق آلاف الدراهم في الأواني المنزلية والأفرشة وتجهيزات أخرى، ولا يتم صرف أي سنتيم على الكتب وكل ما يشجع الثقافة والابتكار والإبداع، فكل المظاهر السلبية التي شهدناها في زمن كورونا، من الاستخفاف بالوباء وخرق الطوارئ الصحية سببها الجهل والتجهيل وقلة الوعي، وكذا البرامج التافهة والمهرجانات المائعة. ولا يمكن محاربة هذه المظاهر، إلا بالعلم والوعي وليس بالإجراءات الزجرية.
وإذا كانت الدولة المغربية فعلا تريد الانتقال إلى مرتبة الدول المتقدمة، فعليها بجعل التعليم أولوية الأولويات وتغيير جذري للسياسة السلطوية والترقيعية المتبعة داخل القطاع، وحل جميع المشاكل العالقة داخل المنظومة التربوية ورد الاعتبار للمدرسة والوظيفة العموميتين ولنساء ورجال التعليم، وهذا لن يتأتى سوى بإعلان التخلي عن التعاقد في الوظيفة العمومية، والاستجابة الفورية لمطالب الشغيلة التعليمية على رأسها إدماج الجميع في أسلاك الوظيفة العمومية وتحفيز الموارد البشرية وذلك بإتاحة الترقية وتغيير الإطار، وأي إصلاح لا يجعل هموم الأستاذ في محوره فهو بمثابة ذر الرماد في العيون. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يجب تقريب العرض التربوي في مختلف المناطق  وذلك بتوفير مقعد دراسي لكل طفل بمواصفات عالمية، من خلال البنية التحتية وجودة التعلمات والخدمات. وكذا توسيع البنية الجامعية لتصل على الأقل جامعة مستقلة قائمة بذاتها في جميع الجهات، وإصلاح حقيقي للجامعة المغربية إداريا، ماليا، وبيداغوجيا،…

التوصية الثانية: تشجيع الاستثمار في البحث العلمي.
منذ سنوات، وسؤال البحث العلمي وعلاقته بالتنمية يُطرح بقوة، كيف يمكن للبحث العلمي أن يُحدد ويُطور السياسة التنموية لأي بلاد؟ وأن يكون في خدمة الإنسان؟؟

فإذا نظرنا إلى الدول المتقدمة، نجدها تخصص ميزانية ضخمة مهمة للبحث العلمي، وتعتمد على الجامعة ومراكز البحوث لانجاز الدراسات قبل اتخاذ أي قرار سواء تعلق بالسياسة الداخلية أو الخارجية، بحيث تُعتبر الجامعة محرك أساسي في التحولات والتغيرات المجتمعية، وأن تحقيق النهضة والتحرر رهين بتحرير الجامعة لتقوم بأدوارها الطلائعية، والاستثمار في البحث العلمي ليواكب تغيرات المجتمع ويجيب على الأسئلة المقلقة للشعوب، “دواء فيروس كورونا نموذجا “.
أما في المغرب، فالبحث العلمي موجود في الأوراق فقط، فكيف لبلد لا تتجاوز ميزانية البحث العلمي فيه 0.5 في المائة من الناتج الداخلي الخام أن يحصد النتائج والإنجازات، فمختبرات جامعاتنا تجيب على هذا، فكم من مرة قمنا بشراء  لوازم كثيرة من جيوبنا للقيام بتجارب علمية؟ وكم من دروس تم إنجازها بدون تجارب؟ 
إن المستقبل للدول التي تجعل العلم والمعرفة من الركائز الأساسية لسياستها، وتعمل على تمكين أصحاب البحث العلمي من كل الإمكانيات المادية والمعنوية إيمانا منها بأهميته ومحوريته، إذ يمكن لي القول، بأن المعرفة نسغ الوجود، بلا معرفة لا وجود. ومن يريد الحفاظ على وجوده فعليه بالبحث العلمي.
ولا شك أن المغرب يملك كافة المؤهلات و الموارد البشرية للالتحاق بالدول الصاعدة، فزمن كورونا برهن على هذا، حيث أبان العقل المغربي على نبوغه، من خلال صنع ملايين الكمامات ومئات أجهزة التنفس والتعقيم المروري، وتربع المغاربة دوليا في مجال البحث العلمي وانخراطهم في الحملة العالمية لإيجاد دواء لفيروس كورونا( سارة بلالي ضمن فريق البروفيسور ديدي راوولت بفرنسا، منصف السلاوي رئيس لجنة مختبرية بأمريكا…). ولم يتبقى سوى أن تقوم الدولة المغربية بواجبها، وتعمل على تشييد المختبرات وتجهيزها، وتشجيع البحث العلمي بفتح الماستر والدكتوراة أمام كل الطلبة، ورد الاعتبار للجامعة المغربية ولأطرها، والعناية بطلبة الجامعة ماديا ومعنويا  وخلق أجواء مناسبة للباحثين لمنعهم من الهجرة، في هذا السياق، وجب على المجتمع والدولة بعد توفير كل الظروف، دعوة كل الأدمغة المُهاجرة للعودة إلى البلاد.

التوصية الثالثة: تأهيل القطاع الصحي. 
لن يختلفا شخصين على أن وضع القطاع الصحي غير مطمئن، يعاني من خصاص التجهيزات ورداءة الخدمات وقلة الموارد البشرية.
فأدنى مقارنة مع الدول النامية، نجد أنفسنا بعيدون كل البعد عن كل المؤشرات الدولية ، سواء من ناحية الميزانية المخصصة للصحة أو البنية التحتية الصحية أو الخدمات والتجهيزات أو الموارد البشرية.ومن المؤكد أن قطاع الصحة في حاجة إلى عملية جراحية مستعجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولضمان نجاح هذه العملية، لا بد من جعل القطاع من الأولويات، وبذل مجهود كبير لتقريب الخدمات الصحية للمواطنين وخاصة في العالم القروي، والعمل على 
زيادة الموارد البشرية لتغطية الخصاص الهائل في جميع الأصناف ليصل على الأقل طبيب لكل ألف نسمة، بدل الوضع الحالي الذي نجد فيه طبيب لكل عشرات الآلاف من المواطنين، ثم يجب القيام بتغيير جذري في الخدمات الصحية لتلائم حاجيات المواطن ومتطلبات العصر؛ ولكي يكون لهذه الإجراءات المستعجلة أثر على أرض الواقع لابد من توفير ركائز أساسية مهمة والمتمثلة في تشييد مستشفى جامعي وكلية الطب على الأقل بكل جهة.
هذه التدخلات وغيرها من الإجراءات هي التي يمكن أن تُحرك الدماء في شرايين الصحة، بدون هذا، سيبقى القطاع في الإنعاش ولن تقوم له قائمة.

التوصية الرابعة: التوزيع العادل للثروات. 
   كما يقال، العدل أساس الملك، وأن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة. 
فواقع الحال بالمغرب، هناك انتشار واسع للجور والظلم وفوارق اجتماعية كبيرة بين الأشخاص والجهات والأقاليم، حيث نجد مناطق تمتلك كل شيء، ومناطق لا تمتلك أي شيء؛ فحين تغيب العدالة الاجتماعية ويسود الظلم ، فالنتيجة هي حدوث اضطرابات مجتمعية، وقد يصل الأمر إلى انتفاضات وثورات شعبية كما هو الحال في سنة 2011.
وفي زمن كورونا، أبانت الفوارق الكبرى بشدة في المجتمع المغربي، حيث نجد من كنز ملايير الدراهم في حسابه البنكي نتيجة نهب ثروات وخيرات البلاد، ولم يحس بأي تغيير على حاله، في المقابل، هناك ملايين من المواطنين لا يملكون قوت يومهم حتى في الظروف العادية، فما بالك في هذا الوقت الذي فقدوا فيه عملهم. فما لا يريد أن ينتبه إليه الأثرياء، أن هذه التفاوتات الصاروخية تشكل عليهم خطرا، وقنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت زاد فيه الظغط، و الظغط علميا لا يولد سوى الانفجار.
وإلى حد الآن، الدولة المغربية لا تمتلك سياسة واضحة للتنمية البشرية وتقليص الفوارق الاجتماعية، ما هو كائن، هو تدخلات ترقيعية في مجملها تهدف إلى التنمية البشرية ضد الفقر، وسياسة مقاومة الفقر ليست هي سياسة التنمية البشرية بقواعدها، لأن التنمية البشرية هي الفائض الذي يغني الفرد والمجتمع ويسمح لهما بفتح أوراش اقتصادية واجتماعية وليس ما يُبقي وضعهما كما كان عليه.
ولتجاوز كل هذه الاختلالات، فليس هناك خيار ثان دون التوزيع العادل للثروات والعمل على تقليص الفوراق الموجودة في كل مجال، وذلك بامتلاك تصور واضح للتكافل الاجتماعي والاقتصادي خاصة في زمن الجوائح والكوارث، عبر توسيع الوعاء التمويلي ومحاربة الاكتناز والإثراء غير المشروع، ثم إعادة توزيع الثروة بطريقة اجتماعية عادلة بتفكيك تمركز الثروة. هذه الإجراءات وغيرها هي الوحيدة التي يمكن تنزيلها للحد من كل مظاهر الإقصاء والتهميش وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وأخيرا، كل التوصيات الأربعة، يجب العمل على تنزيلها عاجلا غير آجل، قبل فوات الأوان وقبل ظهور مجددا ظاهرة أخرى أكثر من جائحة كورونا، ونعود آنذاك مرة أخرى، إلى التباكي والتشاكي.

يتبع

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى