وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ  – عبد الحق لمهى

تأمل في قوله تعالى“هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ” (سورة الحشر،2)

“ثم يقص نبأ الحادث الذي نزلت فيه السورة: هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر. ما ظننتم أن يخرجوا، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله؛ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار. ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب.

ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر. والله هو فاعل كل شيء. ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة، توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون، فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها.

ويؤكد فعل الله المباشر في إخراجهم وسوقهم بالفقرة التالية في الآية: (ما ظننتم أن يخرجوا، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله). فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يسلمون في تصور وقوعه! فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن تخرجوهم منها كما أخرجوا. وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون!

(فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا. وقذف في قلوبهم الرعب). أتاهم من داخل أنفسهم! لا من داخل حصونهم! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب، ففتحوا حصونهم بأيديهم! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم، ولا يحكمون قلوبهم، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم. وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم. فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها. وهكذا حين يشاء الله أمرا. يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر، وهو يعلم كل شيء، وهو على كل شيء قدير. فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة، مما يعرفه الناس ويقدرونه. فالسبب حاضر دائما والوسيلة مهيأة . والسبب والنتيجة من صنعه، والوسيلة والغاية من خلقه؛ ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة، ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية . . . وهو العزيز الحكيم. .

ولقد تحصن الذين كفروا من أهل الكتاب بحصونهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب. ولقد امتنعوا بدورهم وبيوتهم فسلطهم الله على هذه الدور والبيوت يخربونها بأيديهم، ويمكنون المؤمنين من إخرابها.” [1]

الحديث في الآيات السالفة الذكر، حديث عن الكفار وكيف أنهم ظنوا أنهم مانعة حصونهم من الله، ولكن قدرته وقدره نافذ في حق عباده لا يعجزه في ذلك كله أحد فلقد أتاهم من حيث لم يحتسبوا.

ومعلوم ان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، [2]ولما كان الأمر كذلك أمكن القول بأن، قوله تعالى ” وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ” يمكن أن ينسحب معناه على عموم البشرية مسلمهم وكافرهم، بناء على مقتضى القاعدة المذكورة قبل، ومنه يلخص المتأمل في الآية إلى مجموعة من الصور التي توحي على معنى التمنع بالحصون مما هو مشاهد في حياة بني البشر عبر الأزمنة والأمكنة المختلفة، ومن ذلك ما يلي:

ـ منظومة الأفكار: فهذا تجده قد أسس منظومة أفكار وجعل منها حصنه في هذه الحياة، يرى فيها جسرا مانعا من أمر الله تعالى، حتى أنه قد يتخذها إلاه يعبد من دون الله، ويعتقد فيها تمام الاعتقاد أنها مانعة له من الله.

ـ الثروة المالية: وآخرون تحصنوا وتمنعوا -ظنا منهم -بما وصلوا إليه من ثروة مالية مثلما كان الحال مع قارون أو أقرب، حتى واقع حال بعضهم يظهر أنهم في طريقهم إلى أن يصبحوا مثل من ذكرتهم الآية الكريمة.

ـ الاعتداد بالقبيلة والنسب: وإذا نظرت إلى بعض صور الاجتماع الإنساني التي بالغت في الاعتداد بالقبيلة والنسب حتى قاربت أن تجعل منها حصنا منيعا لها من كل ما يمكن أن يصيبها من الله.

ـ النظم الوضعية: في مختلف مجالات الحياة، فهناك من تحصن بها وعدها مما يمكن-بل هو كذلك -اتخاذها طريقا للنجاة من كل أمر يقضي به الله في حق الإنسان.

ـ التنظيمات: بمختلف صورها كانت سياسية أو نقابية … يظهر أن من الناس من اتخذها مسلكا واقيا مانعا من قدر الله، حتى لكأنه لم يعد يلقي اعتبارا لخالقه وشريعة الإسلام ـ بحسب ما يظهر على سلوكه وممارسته لا بما هو عليه قلبه الذي لا يعلم سره إلا الله ـ .

ولو شئتُ عرض صور من يغلب على الظن أنهم داخلون تحت معنى “ظنوا أنهم مانعة حصونهم من الله” لما وسعتني في ذلك الأسطر والصفحات ولكن حسبي أن الفكرة اتضحت وأن لصاحب العقل السليم السعي للانتباه إليها حتى لا يندرج ضمن تلك الأصناف المذكورة، عسى أن يكون من الناجين من أمر الله.

 

***

[1] ـ https://quran-tafsir.net/qotb/sura59-aya2.html

[2] ـ ورد تفصيل هذه القاعدة من مختلف كتب علوم القرآن ومنها كتاب مباحث في علوم القرآن لمناع القطان.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى