غزة.. حديث الإنسان والإنسانية – شيروان الشميراني

الحديث في العلوم المتعلقة بالإنسان “الانثروبوجيا” والفلسفات الدينية وغير الدينية التي تبحث عن الانسان وموقعه في الكون، يفرق بوضوح بين الانسان من حيث هو مخلوق وبين الانسان من حيث هو إنسان – المتصف بالصفات التي تجعل منه إنساناً-، المفضل على مخلوقات مجبولة على الخير ـ فليس كل من امتلك الهيكل الجسدي للإنسان – الخليفة – ينال لقب الانسان من حيث الخصال التي تجعله في أحسن تقويم، لأنه من الممكن والمتوقع أن يرتد الى أسفل سافلين حين امتلاكه من الخصال التي تجعل منه حيواناً مفترساً وهو مستعد لذلك بالخِلقة، وذلك حسب قربه وبعده من الالتزام بخط المنهج المحدد المكلف به تحقيقه على الأرض.

إن التقتيل الجاري بحق المرابطين في غزة بآلة المدنية الحديثة هو قتل للإنسانية وليس للإنسان كجسدٍ مهندس في تقويم جذاب فقط كمخلوق حيّ أصبح ميتاً، وإنما هو قتل لمجمل الصفات الإنسانية المتجسدة في أرواح سكان أهل غزة، لأنهم يمثلون القيم التي أقرّتْ بها كل الأديان السماوية والوضعية وكل صاحب عقل سليم.

الغربيون من أصحاب الضمير السليم والعقل المنصف تعليقاً على المشاهد الوحشية القادمة من غزة والتي تستحي منها الحيوانات الأليفة وتلك البرية التي تتجنب إيذاء من لا يؤذيها، يقول المفكر الفرنسي ” فرانسوا بورغا”: لا يوجد في الغرب إنسان ولا دولة يمتلك ذرة من الأخلاق. فهؤلاء تكون القيم الإنسانية العليا كلها تحت أقدامهم من أجل نسبة قليلة من المصلحة، من أجل نسبة قليلة من المال، من أجل نسبة قليلة من الدعم الصهيوني في الانتخابات وتمويل الحملات الانتخابية.

إنّ قبضة من الذهب اللامع يدفع الانسان التعامل مع مصلحته الحيوانية وينبذ الإنسانية منها، يقول “روجيه جارودي”: أصبحت إسرائيل شيكاغو صغيرة، فها هي تغزو فلسطين بدبابات زنة أربعين طناً مقابل بنادق خفيفة وقاذفي الحجارة، وما ذلك إلا دليل على الانحطاط الأخلاقي لعالم اختفى منه تماماً مفهوم الشرف”.

ومما يدل على الانحطاط الأخلاقي للعالم المعاصر النصائح التي يقدمها خبراء أمريكيون وأصحاب المراكز البحثية بأنه على الولايات المتحدة ورئيسها تقديم الدعم الكامل للجيش الإسرائيلي لسحق حماس والاستمرار في ذلك الدعم مهما كانت التضحيات وحجم الضحايا من السكان المدنيين في غزة، وأن لا يتوقف كما فعل في اليمن تحت الضغط الدولي أو الرأي العام، ولا بأس من هدم آلاف المباني والمنازل كما فعلنا في الموصل ودمّرنا13 ألف وحدة سكنية في بضعة أسابيع، بهذه الروحية يريد العالم المتحضر التعامل مع أناس لا حول لهم ولا قوة أمام الآلة الحربية التي إنبنت على أنقاض بقايا الإنسانية، وكلها من أجل مصالح سياسية.

الغرب والأمريكيون دائماً يتحدثون عن نبذ العنف واعتماد السياسة والدبلوماسية والجلوس لحلّ المشاكل، وعندما يتحدث أهل الثقافة السياسية وهم ينوون شرح الغاية من الممارسة السياسية، يقولون إن السياسة هي لمصالح المجتمع الإنساني، ثم تأتي الوسائل لتحقيق هذه الأهداف الإنسانية، وما يحدث الآن هو عكس ذلك، فقد تحولت بفعل روح المكيافيلية، أو التشدد والتعصب الديني المساند، إلى إجراءات حيوانية بفعل تلك الوسائل التي لا تعرف غير معنى القوة، ولا تُثَمِّن الإنسانَ إلا بقدر ما يملك من القوة، فمقياس القوة هو الذي يُحدد اتجاهات مصير الإنسانية، أما الضعيف أو العاجز عن الدفاع عن النفس فيُطحَن ليكون غداء وعشاء الأقوياء في هذا الزمن القميء، الذي ضاع فيه الحياء وانحسر فيه الاخلاق، و انطفأ الواعز الذي كان يحرك الإنسان عبر استفزاز ضميره من أجل الحق، هذا الزمن الذي انقلبت فيه القيم فأخذت القوة مكان الحق، كم هو مزلزل للضمير الإنساني أن لا يجد الشباب والأطفال في غزة وسيلة للتعرف عليهم بعد وفاتهم بفعل الآلة الحربية الأمريكية-الإسرائيلية سوى كتابة الإسم الثلاثي على الأجساد.

يا لله…

كم هو يائس هذا الإنسان من العالم الذي قيل أنه وصل إلى مرحلته النهائية وإنه من النضج ما ليس بعده فهو مرحلة نهاية التاريخ، وكما يقول طه عبد الرحمن إن الأذى الذي يتعرض له الإنسان الفلسطيني بلع من السوء حدّاً لم يعد بالإمكان أن يبقى شأناً يخصه، بل أضحى شأنا يهم الجميع، لا من جهة انشغال المجتمع الإنساني بحقوق الإنسان ولا من جهة اهتمام المحافل الدولية بقضيته، وانما من جهة تأذي هذا المجتمع الشامل بما يتأذى به الإنسان الفلسطيني، قلباً للقيم وسلباً للفطرة.

وتجربتي الشخصية وتجربة بني قومي، إن القيم الإنسانية معطلة في هذه الأوقات ولابد من أجل إعادة تفعيلها من الضغط عليها، وخضّها وإنعاشها بقوة لكي تتحرك من هنا وهناك وتنبض. أو لنعد الى تسعينيات القرن الماضي ونعيد رؤية المشاهد التي جاءت من سربرنيتشا، هناك من عمق أوروبا، حيث المذبحة الكبيرة بحق المدنيين.

ما يجري في غزّة هو هذا، الإنسان الغزاوي يُعَرِّفُ العالَم الجاهل بحقيقة التصورات والنزعات التي تقود العالم المعاصر، ويُعَلِّمهم الدرس في الكرامة الإنسانية بأنها مقدمة على الحياة، الإنسان الحق ليس حريصاً على “حياة” وإنما على “الحياة”، ( برونو باتلهايم) مفكر وعالم نفس نمساوي – أمريكي كبير، أمضى شهوراً في المعسكرات، لاحقاً وصف في كتاباته سلوك السجناء، ويقول: إن السجناء كانوا يكثرون من احتقر الحراس الذين كانوا يذلونهم أو يهينوهم لفظياً أكثر من أولئك الذين كانوا يضربونهم أو يقتلون.

فالقتل هو القتل ومغادرة الحياة في مرحلتها الدنيوية أما الشتيمة فهي إهانة أشد وطأ من القتل الكامل ! لأنها انتهاك للكرامة الإنسانية واحتقار لها فهي أثقل على الروح من تقطيع الجسد او فصل الرأس عنه، ويضيف باتلهايم: إن الموتى من السجناء تحت التعذيب لآرائهم السياسية كانوا يسمون قتلى، أما الموتى الذين قضوا حمايةً لأرواح الآخرين فكانوا يلقبونهم بالشهداء، لأنه قيمة التضحية التي هي الصفة الإنسانية الكبرى، الصفة التي تفتقر اليها الدول والقيادات التي كان الأهل والأقربون يتوقعون منهم التضحية من أجل وقف حمام الدم في فلسطين، لكن الحسابات السياسية القُطْرِيّة أهمّ من تلك القيَم والرّوح الإنسانية التي تحترق في غزّة ويفتقر اليها غيرهم، كما أن الحال تغير الان وانقلب، فالنازيون الجدد أعداء الإنسانية هم هؤلاء الذين يصفون أنفسهم بالعالم المتحضر، مع “أن هناك لغة مشتركة بين هتلر ورؤساء أمريكيين ونتنياهو فهم يطلقون لقب إرهابي على كل من يقاوم الاحتلال الاجنبي” والكلام لروجيه جارودي  .

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى