علماء القرويين القضاة .. من زمن الأدارسة إلى العلويين (5)

4 – العلماء القضاة في عصر الموحدين

 اتبع الموحدون النظام القضائي الذي أقره أسلافهم من حكام المغرب المرابطين، وأعطوا صلاحيات واسعة للقضاة. إلا أن القانون الموحدي تدخل في شؤون العمل القضائي، وحد من صلاحيات القضاة، حيث كان يمنع منعا باتا العلماء القضاة من مباشرة تنفيذ عقوبة القتل في أصحاب الجنايات، واعتبروها من حق الخليفة، وهذا ما تضمنته رسالتان موحديتان، أولهما في عهد الخليفة عبد المومن بن علي والثانية في عهد الخليفة يوسف بن عبد المومن.[1]

اختص خلفاء الموحدين بالنظر في المظالم، وجعلوا لها أياما معلومة من الأسبوع. وكانت خطة الحسبة تابعة لسلطة القاضي كما كان عليه الحال أيام حكم المرابطين. و كان هناك قاض خاص بالنظر في الشؤون الزوجية والطلاق يسمى قاضي الأحكام، وممن تولى خطة الأحكام بمراكش الفقيه القاضي علي الأنصاري، وإسحاق بن إبراهيم الغماري الذي كان لا يخالف أراء المدونة.[2]

وكان من عادة الموحدين أنهم لا يولون القضاة أكثر من عامين، حتى لا يتخذوا الأصحاب والإخوان، إلا أن هذه العادة لم تعمم على سائر المناطق في الدولة، لأن تراجم عدد من العلماء القضاة تفيد أنهم استمروا في منصب القضاء حتى وفاتهم.

لقد تميز العلماء القضاة في عصر الموحدين بالصرامة في إنفاذ الأحكام، والقوة في نصرة المظلوم وإرهاب الظالم، والجرأة على إيقاع العقاب بالظالم، مما جعلهم يصطدمون بالولاة المستبدين، إلا أن خلفاء الموحدين أبدو انقيادا لأحكام العلماء القضاة، وساندوهم ودعموا استقلالية سلطتهم.[3] لقد كان الفقيه أبو يوسف بن إبراهيم الأغماتي، قاضي الجماعة في عهد الخليفة يوسف بن عبد المومن، صلبا في الحق وتمتع بحرية واستقلالية. وكان “ذا تصميم في الحق، أفرط في ذلك حتى ثقلت على كثير من وجوه الدولة وطأته، ونالوا منه عند أبي يعقوب، فما زاده ذلك إلا حبا وتقربا.”[4]

لم يقتصر دور القاضي في البت في الخصومات، وإنما امتد إلى إصلاح شؤون المجتمع، لقد كان القاضي أبو عباس السبتي يقوم بالصلح بين المتنازعين، ويجمع المال من المحسنين ويخصصه لتزويج الفقيرات. وقام القاضي أبو بكر ابن العربي ببناء سور إشبيلية من ماله الخاص.

وكان القضاة يتحرون العدل قي أحكامهم، ويجتهدون في ابتكار السبل للوصول إلى إصلاح ذات البين بين الزوجين. ويذكر الونشريسي[5] أن قضاة هذا العصر كانوا يلجؤون إلى أمينة من النساء المعروفات عندهم بالصلاح والتقوى، فكانت تقيم في بيت الزوجية -موضوع الجدل- من أجل معرفة الظالم من المظلوم، لضمان شهادة الزوجين وتحديد السبب الحقيقي للمشكل، وهذا الجهد كله من أجل أن يكون القاضي عادلا في حكمه.

شارك علماء القرويين القضاة في الجهاد بأنفسهم، وكانوا في المقدمة يدافعون عن الإسلام بالأندلس. واستشهد في معركة العقاب بإشبيلية الفقيه محمد بن طاهر الحسيني قاضي الجماعة في عهد يعقوب المنصور، وكان من كبار العلماء المدرسين.

انتشرت كتب المذهب المالكي وأصبحت معتمدة عند فقهاء المالكية، وعلى ضوئها يحكم العلماء القضاة ويفتي المفتون، وقد حاول خلفاء دولة الموحدين القضاء على المذهب المالكي بتاتا. فعندما استتب الحكم للخليفة عبد المومن بن علي، عقد اجتماعا مع الفقهاء، وأمرهم بنبذ المدونة، لكن ابن زرقون الذي كان ينوب عن الفقهاء لم يستجب للخليفة ورد عليه بقوله: “يا سيدي، جميع ما في هذا الكتاب -يعني المدونة- مبني على الكتاب والسنة، وأقوال السلف، والإجماع، وإنما اختصره الفقهاء، تقريبا لمن ينظر فيه من المتعلمين والطالبين.”[6]

وتأزمت العلاقة بين فقهاء المالكية وخلفاء الموحدين، وتعرض الفقهاء لمحنة كبيرة، وأمر الخليفة يعقوب المنصور بإحراق كتب فقهاء المالكية والتنكيل بأصحابها. يقول عبد الواحد المراكشي، الذي كان معاصرا لهم: “وفي أيام –يعقوب- انقطع علم الفروع، وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب، بعد أن يجرد ما فيها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن. ففعل ذلك. فأحرق منها جملة في سائر البلاد، كمدونة سحنون، وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبي زيد، ومختصره، وكتاب التهذيب للبرادعي، وواضحة ابن حبيب، وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها. لقد شهدت منها وأنا يومئذ بفاس، يؤتى منها بالأحمال، فتوضع ويطلق فيها النار، وتقدم إلى الناس بترك الاشتغال بالرأي والخوض في شيء منه. وتوعد يعقوب على ذلك بالعقوبة الشديدة.”[7]

وهناك رواية أخرى رواها ابن أبي زرع تقول إنه تم إحراق كتب المالكية وخاصة المدونة في عهد الخليفة عبد المومن وتبعه الناصري ونقل هاته الرواية في الاستقصا. أما صاحب كتاب بيوتات فاس إسماعيل بن الأحمر، فيروي أن إحراق المدونة كان في عهد الخليفة محمد الناصر ولد المنصور، لأن فقهاء المالكية تشبثوا بالمدونة وأنكروا عليه العمل على محض الظاهرية. فأمر الخليفة بجمع جميع النسخ بالمغرب، فأحرقت عن آخرها.[8]

وبالتالي فإن الإحراق كان سنة جارية عند خلفاء الموحدين. وقام أيضا يعقوب المنصور بإحراق كتب الفلسفة لابن رشد الحفيد الذي تعرض لمحنة كبيرة، وقام بسجنه وتراجع عن ذلك وعفا عنه، وتوفي ابن رشد إثر مرضه بعد ذلك. يقول عبد الواحد المراكشي في هذا الصدد ” لقد نرى يعقوب منع قراءة الفلسفة، وأمر بإحراق كتبها، كما أمر بإحراق كتب الفروع الفقهية من قبل، أما الفلسفة فرجع عن منعه لها، وعفا عن أصحابها، وفي مقدمتهم ابن رشد، وردهم إلى مكانتهم، بخلاف كتب الفروع، فبقي المنع صادرا عليها.”[9]

وعرف هذا العصر بسفك دماء المعارضين لحكم الموحدين، والتنكيل بفقهاء المالكية الذين تعرضوا لمحنة عسيرة، فعندما رفضوا التخلي عن كتب المالكية، التجأ الخلفاء الموحدون إلى إجبارهم بالقوة على التخلي عنها بالتعذيب والنفي والسجن والقتل.

– تعرض القاضي عياض للتغريب والتهجير والإقامة الجبرية بمراكش سنة 543هـ، وتوفي سنة 544هـ. لقد قاد ثورة السبتيين ضد الموحدين، وحسب ما يوضحه الناصري في مؤلفه، فإن “ما صدر عن القاضي عياض في جانب الموحدين دليل على أنه كان يرى ألا حق لهم في الآمر والإمامة وإنما هم متغلبون”.[10] – وسجن القاضي أبو بكر بن العربي المعافري ومن معه، رغم أنه كان يتقدم وفدا من القضاة والعلماء لتقديم البيعة للخليفة عبد المومن بمراكش، وقيل إنه مات مسموما.[11]

– غُرب القاضي إبراهيم بن محمد بن خلف المعروف بابن الحاج من ألميرية بالأندلس إلى مراكش، وتوفي بعد إقامته بها بأشهر.

– عُزل القاضي ابن القطان الفاسي من منصبه، وكان يجمع بين القضاء والخطابة والحسبة والديوان.

– وصُرف القاضي محمد بن علي بن مروان عن منصبه سنة 601هـ.

– واجه الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الفهري المشهور بالأصولي الخليفة يعقوب المنصور. وكان له فضل وجلال وتضلع في العلم، وكان جلدا صلبا قوي الجأش، لقد أراد الخليفة قتله، فقال له كيف تمنع الشهادة على الدينار والدرهم وتجيز قتل المسلم، فتراجع الخليفة وعفا عنه.

لقد أبرزت هذه المحنة مواهب العلماء القضاة، ونشطوا في تعقب الآراء التي يريد خلفاء الموحدين نشرها بين العامة، وقام الفقيه التادلي الذي كان قاضيا ومفتيا وبطلا من الشجعان بإملاء المدونة وكتب المالكية الأخرى من حفظه. لقد تقلد فقهاء المالكية القضاة خطة القضاء في عصر الموحدين، ولم يخرجوا عن مذهبهم طيلة هذا العصر، وكانوا يحرصون على إعمال ما قرره أئمة المذهب، فكانت الأحكام جارية على أحكام المذهب المالكي، ويدل على ذلك تأليف قضاة المالكية في فقه القضاء.

– مذاهب الحكام في نوازل الأحكام لأبي عبد الله ابن القاضي عياض الذي تولى قضاء دانية ثم قضاء غرناطة بالأندلس.

– المفيد للحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام، للفقيه القاضي أبي الوليد بن هشام الأزدي.

– تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام، للفقيه القاضي أبي عبد الله بن المناصف.

وهكذا قام الموحدون بإقصاء فقهاء المالكية، ومنعوهم من التدخل في الشؤون العامة بعد زوال حكم المرابطين، وهذا ما وضع فقهاء المالكية أمام أمر واقع فرض عليهم الدخول في طاعة الحكام الجدد، إلا أن الحكام الموحدين كان عليهم أيضا أن يتقبلوا الأمر الواقع؛ ويتعاملوا في مجال القضاء مع فقهاء المالكية أنفسهم الذين استقر النظام القضائي في أيديهم منذ أمد بعيد،[12] فكانوا يحكمون وفقا للمذهب المالكي، وبذلك كان لعلماء القرويين القضاة، في هذه الفترة العصيبة من تاريخ المغرب دورا جوهريا في حفظ المذهب المالكي واستمراريته لمدة مئة عام، فقد الْتَفَّ المجتمع المغربي حول الفقهاء والقضاة، واقتصر المذهب الظاهري على حكام الموحدين، وزال بزوالهم. يقول حسين مؤنس “وهو أن الدولة تقوم على مؤسسات لا على أفراد من الرجال، لأن أفرادا من الرجال من الممكن أن يقيموا بنيانا سياسيا، ولكن استمرار هذا البنيان لا يتم إلا إذا كانت هناك مؤسسات ذات صيغة شرعية وقانونية، تقوم عليها الدولة وترتبط بين السلطة الحاكمة وجمهور الناس”[13].

بقلم الدكتورة: آمنة هدار

لقراءة الحلقة (4) اضغط هنا


المصادر: 

[1]– انظر علي بن محمد، بن القطان، نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان، تحقيق محمود علي مكي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990، ص: 196.

[2]– انظر المرجع قبله، ج :1، ص:325.

[3]– انظر محمد بن عبد الله، بن الأبار، التكملة لكتاب الصلة، نشره عزت العطار الحسني، مكتبة الخانجي، 1956، ص: 55. انظر أيضا محمد بن محمد بن عبد الملك، الذيل والتكملة، السفر الثامن، تحقيق محمد بنشريفة، منشورات أكاديمية المملكة المغربية، 1984.

[4]– انظر عبد الواحد، المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تعليق خليل عمران المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978، ص: 206.

[5]– انظر أحمد، الونشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، تحقيق محمد حجي، وزارة الأوقاف بالمغرب ودار الغرب الإسلامي، 1981، ج: 7، ص: 131.

[6]– انظر عبد الهادي أحمد، الحسيسن، مظاهر النهضة الحديثة في عهد يعقوب المنصور الموحدي، طبع اللجنة المشتركة لإحياء التراث الإسلامي بين المغرب والإمارات، 1982 ج: 1، ص: 201-202.

[7]– انظر عبد الواحد، المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تعليق خليل عمران المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978، ص: 400-401. 

[8]– انظر عبد الهادي أحمد، الحسيسن، مظاهر النهضة الحديثة في عهد يعقوب المنصور الموحدي، طبع اللجنة المشتركة لإحياء التراث الإسلامي بين المغرب والإمارات، 1982 ج: 1، ص: 201-202.

[9]- انظر المصدر قبله، ص: 437. 

[10]– انظر أحمد بن خالد، الناصري، الاستقصا لأخبار دولة المغرب الأقصى، الفصل “انتفاض أهل سبتة على الموحدين وخبر القاضي عياض رحمه الله معهم”، ج: 2، ص: 113.

[11]– انظر عصمت، دندش، الأندلس في نهاية المرابطين ومستهل الموحدين، عصر الطوائف الثاني، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1988، ص: 106-107.

[12]– انظر لخضر، بولطيف، فقهاء الملكية والتجربة الموحدية في الغرب الإسلامي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي،1981، ص: 62.

[13]– انظر حسين مؤنس، معالم تاريخ المغرب والأندلس، دار الرشاد، ط: 5، 1997، ص: 236.

موقع الإصلاح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى