رؤية المسيري المعرفية لقضية الصراع العربي الإسرائيلي (1) – عبدالهادي باباخويا

اهتم المرحوم المسيري بقضية فلسطين، وللصراع العربي الإسرائيلي بشكل أكاديمي، ذو طابع معرفي عميق وبأسلوب منهجي دقيق. سواء في البحث عن جذور القضية وأسسها العلمية، أو في تتبع جزئياتها وتفصيلاتها المختلفة. فكانت كتاباته في هذا المجال إسهاما تجديديا تنويريا، وأفرزت تأملاته وتفسيراته لها، مؤلفات مرجعية عن قضية فلسطين والحركة الصهيونية..

ومساهمة في بث الوعي المعرفي الأصيل، وإحياء الفكر المنهجي المتين، نتناول في هذه المقالة جانبا من رؤيته الفكرية لهذه القضية من خلال أربع محاور:

أولا: ورطة اليهود في الاستيطان بفلسطين

من الأدوات الإستراتيجية التي يعتمد عليها النظام لاستعماري المعاصر “الكيانات الاستيطانية”، حيث تتحول هذه الكيانات إلى قاعدة ثابتة لخدمة الدول الاستعمارية، ومركز حيوي للسيطرة والتحكم في الشعوب الأصلية ونهب خيراتها.

فتم توظيف الفكرة الصهيونية عبر تجييش بعض اليهود كجماعة وظيفية، حيث قامت باستقطابهم كأقلية دينية، و عملت على وضع “نهاية للمنفى” عن طريق تأسيس دولة مستقلة خاصة باليهود، تحقق لهم الفردوس الأرضي بفلسطين “أرض الميعاد”.

وقامت الدعاية الصهيونية في جذب يهود العالم إلى فلسطين، إضافة إلى استخدام القوة والقهر بالتواطؤ مع الأنظمة القائمة، على ثلاث وسائل رئيسية:

       – الدعاية الدينية: كل يهودي يبقى خارج إسرائيل، يرتكب معصية دينية وإثما كبيرا.

      – البشارة الاقتصادية: أثارت الدعاية الصهيونية آمال يهود العالم، في حياة رغيدة حافلة بفرص السعادة والثراء في دولة إسرائيل.

      – الوضعية القانونية: حيث استحدثت الحركة الصهيونية قوانين وتشريعات، خاصة بالعودة والجنسية في دولة إسرائيل.

فكانت هذه الوسائل وغيرها إحدى ركائز المشروع الاستعماري الاستيطاني بأرض فلسطين، والذي أدى إلى نتائج من أهمها:

      – تحطيم الوجود الأمني الذي تمتع به اليهود في إطار تجمعاتهم الأصلية، في الدول العربية وغيرها منذ آلاف السنين.

      – الزج باليهود في حركة استعمارية عالمية، من خلال فكرة التوطين وأرض الميعاد، وتخليص أوروبا البيضاء من أحد أبرز مشاكلها الداخلية، وتصديرها إلى بلاد الشرق على حساب سكانها.

       – صهينة الديانة اليهودية وتلويث الموروث الثقافي لليهود، بأساطير ومزاعم مناقضة لحقائق الطريق ولقيم الإنسانية المشتركة.

       – دولة إسرائيل في حقيقتها مجرد أداة في يد الغرب، ولا قيمة لها في حد ذاتها إلا من خلال الدور أو الوظيفة التي تقوم بها، أي حماية المصالح الغربية في العالم العربي.

ثانيا: الشعب المختار والتاريخ المقدس

يشرح المسيري الرؤية اليهودية للتاريخ، وكيف أن بعض الحاخامات كانوا يتصورون أن الإله قد حل في الشعب اليهودي، فأصبح شعبا مختارا كل أفعاله(خيرة كانت أم شريرة) هي أعمال مقدسة، وتاريخه تبعا لذلك أصبح تاريخا مقدسا.

وقد ورث الصهاينة هذه الرؤية الحلولية (الإله الواحد المنزه الذي يتحد بجماعة إسرائيل وبأرضها وتاريخها)، عن بعض الحاخامات اليهود الذين صارت تفسيراتهم للنص المقدس، تعادل في أهميتها كلام الإله إن لم تكن أكثر أهمية منه. حيث يعتقدون أن الإله قد حل في التاريخ، وتتجلى من خلاله إرادته في كل كبيرة وصغيرة منه. وهذا حسب المسيري يزيح المعايير الأخلاقية، في رصد الوقائع التاريخية لأنها موضع الحلول.

وقد سببت هذه أسطورة “الشعب المختار”، وما تبعها من أرض مقدسة وتمركز حول الذات، إلى شعور متعالي عند اليهود واحتقار للآخر، واستهانة بحقوقه ومصادرة لممتلكاته وإزهاق لأرواح الأبرياء من غير اليهود.

وأدت هذه الرؤية الحلولية إلى عزل الشعب المقدس عن الآخرين وعن محيطه، وأصبحت اليهودية ديانة مغلقة تستبعد الآخرين من نطاق القداسة وشرائع الخلاص.

ثالثا: التقسيم خيار استراتيجي للحركة الصهيونية

يقرر المسيري في كثير من كتاباته أن الإستراتيجية الغربية، التي تستخدم الحركة الصهيونية كوسيلة اتجاه العالم الإسلامي، تنطلق من ضرورة تقسيمه إلى دويلات إثنية مختلفة حتى يسهل التحكم فيه. وتصبح وظيفة الكيان الصهيوني المغروس في الجسد العربي، دولة قائدة وراعية لعملية التحكم. فالعالم العربي يشكل وحدة مترابطة وثقلا استراتيجيا واقتصاديا وعسكريا، ومن ثم سيكون عائقا أمام الأطماع الاستعمارية الغربية.

وعليه كان لابد من تفكيكه من خلال عملية التطبيع مع الدولة الصهيونية، التي تعاني من شذوذ بنيوي مع الدول العربية. وتقوم عملية التقسيم على بث الخلافات وروح الكراهية، وافتعال الفتن والعداءات كعوامل توتر تفيد المصالح الغربية في التحكم والسيطرة على العالم العربي، ومن خلاله على الأمة الإسلامية جمعاء.

والدول العربية اليوم إن لم تتدارك مسيرتها التطبيعية مع الكيان الصهيوني الغاصب، وتجد طريقة للتعاون والتنسيق والتكامل فيما بينها، ستؤول إلى مجرد مقاطعات في دولة الشرق الأوسط الكبير الذي سيحكمه قادة دولة إسرائيل.

رابعا: المقاومة الفلسطينية ونهاية إسرائيل

يؤكد المسيري أن هاجس نهاية الدولة اليهودية يعشعش في الوجدان الإسرائيلي، لأن أغلب الجيوب الاستيطانية المماثلة (الممالك الصليبية، الاستيطان الفرنسي في الجزائر، دولة الأبارتهايد في جنوب إفريقيا..) قد لاقت نفس المصير.

ثم إن رؤية الإسرائيليين (وهم الأغلبية) الحالية تختلف عن رؤية السياسي الصهيوني (نخبة الدولة)، حيث يعتقد أغلب اليهود في إسرائيل أنهم قد غرر بهم، وتم التخلص منهم من خلال توطينهم في منطقة ذات أهمية استراتيجية لمصالح الغرب، خاصة أمريكا وبريطانيا كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

ويقوم مشروع المقاومة ضد الكيان الصهيوني المغتصب، على أساس أن الدولة الصهيونية حركة استعمارية وأداة في يد الغرب الإمبريالي، قامت على غصب الأرض وتهجير الإنسان بالقوة والقهر، وتستمد عوامل بقائها ووجودها من الخارج (الدعم الأمريكي أساسا والغياب العربي)، وبذلك تكون المقاومة بكل أشكالها هي طريق نهاية إسرائيل، بدءا من رفع كلفة الاحتلال وكسر حاجز الخوف من ترسانته العسكرية، إلى توجيه الدول الراعية له لإعادة النظر في حساباتها ورؤيتها للمنطقة ولمصالحها الإستراتيجية.

واستطاعت المقاومة بإمكانياتها المتواضعة، أن تحول الحلم الصهيوني إلى كابوس، حيث عبر الشاعر الإسرائيلي عن ذلك بقوله: أعتقد أن كل إسرائيلي يولد “في داخله السكين الذي سيذبحه”.

لكن يبقى أهم إنجاز للمقاومة في طريق تحرير فلسطين، هو تجميد الهجرة ووقف توافد الصهاينة على إسرائيل، بما أدى إلى اضمحلال الدولة وتآكلها من الداخل، الأمر الذي يجعل إسرائيل تقترب من نهايتها..

يتبع

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى