في تعديل مدونة الأسرة.. وجهة نظر فكرية –  عبدالهادي باباخويا

يعرف المجتمع المغربي بمختلف مؤسساته وتشكيلاته الفكرية والمدنية، حوارا بناءً من أجل مراجعة مدونة الأسرة وتعديل بعض بنودها، التي لم تعد تخدم قضية الأسرة المغربية، وصارت تشكل بنودها القانونية وتموضوعها الإجتماعي، عرقلة حقيقية لتطور المجتمع المغربي ونهضته ونموه. لما تشكله هذه المؤسسة من رصيد إنساني ممتد في التاريخ، وبناء اجتماعي راسخ في نظام الحياة، ومركز فاعل في معظم الجبهات والتحديات الكبرى.

وفي إطار هذا الحوار سنحاول المساهمة بطرح ثلاث محاور أساسية للتفكير والمناقشة، نعتبرها وجهة نظر مكملة للمسارات الإصلاحية المعروضة في الساحة من طرف مختلف المكونات والحساسيات، انسجاما مع الإستثناء المغربي القائم على وحدة الاختيارات المذهبية رغم اختلاف التوجهات الفكرية..

أولا- تجديد المفاهيم المؤسسة لنظام الأسرة المغربي:

من المفاتيح المهمة أثناء إرساء قوانين فعالة ومؤثرة في المجتمع، البحث في المفاهيم المؤسسة لعملية التشريع، حتى يكون التشخيص بخلفية علمية ونتجنب بذلك التسيب في الفهم، أو الارتباك أثناء التنفيذ والممارسة. وأيضا حتى تكون القوانين منسجمة مع رؤية المجتمع وطموحه ورغبته في الإنجاز الحضاري. لذلك فعملية إصلاح المدونة تستلزم النظر في المفاهيم التي قامت عليها ابتداءً، سواء في حمولتها الفكرية ومضمونها المعرفي، أو في امتداداتها القيمية وآثارها العملية.

ومن المفاهيم المؤسسة للمدونة والتي تحتاج إلى تعديل ومراجعة، هناك مفهوم “الحماية” سواء للمرأة أو الطفل أو الأسرة، مفهوم “النهوض بوضعية المرأة المغربية”، مفهوم “المساواة”، مفهوم “المناصفة”، مفهوم “مكافحة العنف ضد المرأة”… وغيرها من المفاهيم التي شكلت أرضية فكرية قامت عليها قوانين مدونة الأسرة، وتم تجريب فلسفتها في تنظيم العلاقات ووضع الأحكام والتشريعات. لذلك نحتاج في إنجاح ورش إصلاح المدونة الحالية، إلى تقييم علمي منهجي لكل هذا الجهد، بما يساعد على تطوير هذه المفاهيم أو استبدالها بما يخدم النموذج التنموي للمجتمع المغربي، وبما يحقق الانسجام في أحكام المدونة وتشريعاتها التفصيلية.

كما نحتاج إلى حوار فكري حقيقي لحاله الإستيلاب، التي تنتاب بعض نخبنا والنافدين في مؤسساتنا التشريعية والتنفيذية والإعلامية، الذين يستلهمون مفاهيم الغرب ونماذجه ويتخذونها مداخل للإصلاح والتغيير في مختلف المجالات، ومنها مجال الأسرة الذي يعرف تدفقا مفاهيميا خطيرا، باسم الكونية والمشترك الإنساني وتوسيع الجسور.

ثانيا- إحياء المقاصد المنسية في المدونة الحالية:

تأسيس أسرة حسب المدونة الحالية له أغراض معينة وأهداف محددة، وإن كانت مرتبطة برقي المجتمع وبوعيه وفعالية أفراده، إلا أنها أيضا مرتبطة بمقتضيات قانونية والتزامات دستورية وارتباطات ثقافية لابد من الوفاء بها. لذلك تحتاج هذه الأهداف والمقاصد إلى بعث وإحياء، عبر قنوات التوعية والتعليم والتنشئة الإجتماعية، أولا لأن هذه المقاصد تكاليف شرعية وجب الإلتزام بها، وثانيا لما لهذا الإحياء من حوافز تحمي الأسرة وتجلب لها المصالح المتنوعة، وتدفع عنها المفاسد والمخاطر المتعددة.

ومن أهم هذه المقاصد المنسية والتي تحتاج إلى إحياء:

أ- مقصد الإحصان والإعفاف للزوجين وصيانة الأعراض:

فهذا هو الأصل الشرعي في إنشاء الأسرة المغربية كما قررته المادتين 4 و 26 من المدونة الحالية، وهو أساس تماسكها وتلاحمها وهو الوسيلة الفعالة لسد ذرائع الفساد والإنحلال والإباحية. لذلك تحتاج المدونة إلى تعميق هذا التوجه نحو قيم العفة والحياء التي صارت تعرف زلزالا مخيفا، وترسيخ نموذج النقاء والطهر الأخلاقي في حياة الأسر، لأنه يمثل المعنى الحقيقي للدرع الحصينة لهذه المؤسسة، التي تنتج وترعى أهم مخلوق في هذا الكون وتقوم على حمايته وصيانته أيضا.

ب- مقصد نظام الأسرة الإسلامي:

نظام الأسرة الذي احتكمت إليه المدونة في معظم بنودها قائم على أحكام الشريعة الإسلامية، تقديرا لانتماء المغاربة وحفاظا على ثقافتهم وهويتهم وحضارتهم. فالأسرة المغربية طبيعتها إسلامية سواء في الوجدان والشعور بالأمن والانتماء والإستقرار، أو في توريث الأخلاق وأصول التماسك الإجتماعي والتضامن والتماسك. وهذا يحتم ضرورة دعم هذا التوجه وجعل نظام الأسرة الإسلامي كإطار نموذجي، في تأمين ومناعة المجتمع من الإنحرافات الأخلاقية والإضطرابات النفسية والمصائب الفكرية في التعديلات المقبلة. فقد ظل هذا النظام ولعصور طويلة محضن القيم النبيلة ووعاء الروابط الرحيمة والإنسجام الفطري، وأدى إلى تكامل فريد بين الأجيال، وتآلف عجيب بين أفراد المجتمع بوعي وغيرة، بما جعل مشكلات الحياة وصعوباتها لا تؤثر في بناء الأسرة وفي أدوارها ووظائفها.

ثالثا- تفعيل الوظائف المعطلة في مدونة الأسرة:

تتأسس الأسرة المغربية وفقا للمدونة الحالية، على الشراكة بين الزوجين في تحمل أعباء مؤسسة الأسرة، كخلية اجتماعية لها حاجات بيولوجية ومهام ثقافية ومسؤوليات مدنية. ونظرا لهشاشة الوعي داخل المجتمع المغربي، وأمام التحولات البنيوية للأسرة المغربية (من أسرة ممتدة إلى أسرة نووية حتى في العالم القروي)، وعلاقاتها التي أصبحت محدودة وضعيفة، تحتاج مدونة الأسرة إلى مقاربة قانونية متطورة لأدوار ووظائف الأسرة، تستوعب هذه التحولات وتدعم أعضاء الأسرة بالمقتضيات اللازمة لبناء حياة متوازنة، بتوفير وسائط حقيقية لتنشئة اجتماعية مناسبة لهذه الأدوار والوظائف.

فمثلا الرأسمال الرمزي للأسرة والمتمثل في سلطة الأبوين، أصبح يتآكل ويتقلص أمام غياب الزوجين أو أحدهما عن البيت، وأيضا محدودية تأثير الحي والمسجد والمدرسة. وفي المقابل الإنتشار الواسع والتأثير القوي لتكنولوجيا الإعلام والإتصال، وما أفرزته من مشاكل شوشت على دور الأسرة، في التنشئة الإجتماعية وفي مواكبة التحولات المتسارعة التي يعرفها المجتمع المغربي. وهذا طرح إشكالية التعامل مع العالم المتغير داخل الأسرة، وما يتطلبه ذلك من تأهيل الأبوين للتفاعل الإيجابي والتعامل الواعي مع هذه التطورات والتحديات، وبما يساعدهما على استعادة دور البيت وسلطته الدينية وشرعيته الإجتماعية وتأثيره الإقتصادي، ويجعل من استئناف الأبوين لوظيفة التوجيه والتربية والنصح والتأثير مسألة سهلة وفعالة في نفس الوقت.

لذلك من القضايا المستعجلة في تعديل المدونة، هو تقنين وسائط مساعدة للأسرة في التنشئة الإجتماعية، ومساندة لها في أداء وظائفها التربوية ومهامها التنموية داخل البيت وخارجه. وهذا يوسع من دور المدونة ويجعل عملها لا يقتصر فقط على الفصل في النزاعات الأسرية، بل يتجاوز ذلك إلى رعاية ومواكبة الأسرة في أحوالها وشؤونها وهمومها، وتوفير الشروط والأجواء الملائمة لاستمرارها وتطورها.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى