فلسطين: نصرة أعمار لا تضامن أيام – سحر الخطيب

يحتفي العالم بأسره يوم 29 تشرين الثاني/نونبر من كل سنة منذ سنة 1977 أي 29 سنة بعد “تقسيم فلسطين” باليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. وهو احتفال رسمي إثر صدور القرار 181 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 والذي ينص على تقسيم فلسطين إلى “دولتين”. 

ويجري هذا الاحتفال في مقر الأمم المتحدة وفي مكتبي الأمم المتحدة في جنيف وفيينا وفي مواقع أخرى من خلال تنظيم فعاليات متنوعة في مختلف أنحاء العالم وهو عبارة عن عقد اجتماعات خاصة يُدلي فيها مسؤولون رفيعو المستوى في الأمم المتحدة وفي منظمات حكومية دولية وممثلون عن المجتمع المدني ببيانات بشأن قضية فلسطين. يشمل الاحتفال أيضا مناسبات ثقافية. وفي مواقع أخرى، تنظم هيئات حكومية ومنظمات المجتمع المدني، بالتعاون مع مراكز الأمم المتحدة للإعلام، أنشطة متنوعة في مختلف أنحاء العالم. وقد جرت العادة أيضا على أن تُجري الجمعية العامة للأمم المتحدة مناقشتها السنوية بشأن قضية فلسطين في ذلك اليوم. في الفترة من عام 1967 إلى عام 1989، اتخذ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 131 قرارا، يتعلق كثير منها بالفلسطينيين؛ ومنذ عام 2012، صدر عدد من القرارات التي تتناول بصورة مباشرة الدولة الفلسطينية الحديثة. أغلب القرارات التي تم اتخاذها، صدرت في شهر نونبر أو الأشهر القريبة من شهر نونبر كشهري ديسمبر وفبراير. 

بهذه الفعالية الدولية، تغلف الأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين بقرار تضامن مع الشعب الفلسطيني ثلاثة عقود بعد قرار التقسيم كما لو كان هذا التضامن سيعيد حقا أو أرضا، أو سيفرج عن أسير أو سيعوض نازحا مهجرا عما سلب منه.  إن هذا التضامن تضامن في الظاهر وخذلان في الباطن. أين هي قرارات الأمم المتحدة التي اتخذتها الجمعية العامة للأمم المتحدة للتضامن مع الشعب الفلسطيني على أرض الواقع؟ إذا قمنا بتعريف التضامن حسب المعجم الجامع هو التزام القوي بمساعدة الضعيف والغني بمعاونة الفقير، أن يلتزم كل من الأول أن يؤدي عن الثاني ما لا يقدر هذا الأخير على القيام به أو أدائه. إن التضامن هو الاتحاد والتعاون والاتفاق. هل نشهد ذلك فعلا في مأساة الشعب الفلسطيني؟ إن كل قرارات التضامن معلقة وعالقة ورهينة مزاج الدول “العظمى”. إذا كان التضامن يبدأ بالحملات التحسيسية بشأن القضية الفلسطينية إلا أنه لم يمتد إلى مساعدة ومد يد العون للشعب الفلسطيني حتى يبلغ مرحلة التأييد والتمكين للدولة الفلسطينية المفترضة التي تنتظر الاعتراف منذ سنة 1948 أي منذ 73 سنة. إننا نشهد الوجه السافر والكريه بعينه لكل ما يحمله مفهوم اللاتضامن من معنى، عندما سحب من اللاجئين ما كانوا يحصلون عليه من دعم وعندما فرض الحصار وطال على أهل غزة والضفة الغربية وعندما طالت المقدسات، وعلى رأسها المسجد الأقصى، أبشع الانتهاكات والتدنيس والخرق السافر “للقرارات المزعومة “.  بل تم تجاوز ذلك اللاتضامن ليصبح خذلانا من طرف بني الجلدة وإخوة الدين الواحد تحت مسمى “التطبيع” حتى يستساغ مذاقه النتن ويزين وجهه القبيح فلا يوسم بالعار. تجلى اندثار مظاهر التضامن سافرا واضحا لا يعلوه غبار أو ضباب أو حتى شك. وأصبح التضامن كلمة فارغة من محتواها، شعار رنان أضحى غطاء الإرادة العاجزة والنوايا الخبيثة التي تريد إقبار هذه القضية وشعبها وحقوقها المسلوبة ومقدراتها المرتهنة لمصالح إمبريالية ضيقة لا حضارية.

قد يكون التضامن وطنيا أو عالميا أو إنسانيا أي أنه يمتد من أصغر خلية مجتمعية إلى أكبر تجمع إنساني. فإنه كما يتجلى بين الأفراد فإنه يتجلى أيضا بين الدول وبين الكتل من الدول. من الأكيد أن أحرار العالم، على المستوى غير الرسمي، يعبرون عن التضامن ويسخرون شتى الوسائل للتضامن مع الشعب الفلسطيني. إلا أننا على المستوى الرسمي، بدءا من منظمة الأمم المتحدة، نشهد العكس تماما. أظننا أنه علينا تجاوز هذا التضامن المزعوم ولنقل صراحة اللاتضامن السافر.

إن التضامن في الإسلام يتضح جليا من خلال الحديث الشريف الذي يقول – “مثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”، رواه مسلم. من خلال هذا الحديث، نستشف عمق الصلة الوجدانية والإنسانية والعضوية التي ينبغي أن تربط بين المسلمين بعضهم ببعض، فهم أعضاء جسد واحد لا ينفصل عضو عن عضو بل يآزره ويسانده في أصعب الظروف والمحن.

يمثل التضامن شرارة الانطلاق لتعميق الصلة والروابط بين المسلمين لكن هناك مفهوم أوسع وأعمق، يدعو إليه القرآن الكريم والسنة الشريفة المطهرة ألا وهو مفهوم النصرة. يؤصل هذا المفهوم لتجليات عميقة على جميع الأصعدة نتناولها بعد أن نقدم تعريفا لمفهوم النصرة وما تدل عليه في الكتاب والسنة.

النصرة لغة هي النَّصْر والعون يُقصد بالنُّصْرَة اصطلاحا تلك الغَيْرة الإيمانيَّة، التي تدفع المسلم لرفع الظُّلم عن أخيه المسلم المستَضْعف، وفي هذه الحالة، نسعى إلى نصرة قضية فلسطين وإخواننا الفلسطينيين قال تعالى في محكم كتابه: “وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ” سورة الأنفال، الآية 72.

وفي السنة الشريفة، نجد النصوص التالية: وعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالـمًا، أو مَظْلومًا. فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مَظْلومًا، أفرأيت إذا كان ظالـمًا، كيف أنصره؟ قال: تَحْجُزُه، أو تمنعه من الظُّلم، فإنَّ ذلك نَصْره). رواه البخاري. سمِّي رَدُّ المظالم نَصْرًا؛ لأنَّ النَّصْر هو العون، ومنع الظَّالم عون له على مصلحته، والظَّالم مَقْهور مع نفسه الأمَّارة، وهي في تلك الحالة عاتية عليه، فردُّه عونٌ له على قَـهْرها، ونُصْرةٌ له عليها.

– وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : (أمرنا بسبع : بعيادة المريض، واتِّباع الجنائز، وتشميت العاطس، وردِّ السَّلام، وإجابة الدَّاعي، وإِبْرَار المقْسِم، ونَصْر المظْلوم.)رواه البخاري ومسلم

-وقال صلى الله عليه وسلم : (من نَصَر أخاه بظَهْر الغيب، نَصَره الله في الدُّنْيا والآخرة) رواه البيهقي و حسنه الألباني.

– وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  (المسلم أخو المسلم، لا يَظْلِمه، ولا يُسْلِمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كُرْبة، فرَّج الله عنه كُرْبة من كُرُبات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة .) رواه البخاري و مسلم.

ولهذه النصرة تجليات عدة، نذكر بعضها فيما يلي:

التجلي العقدي القلبي أو الوجداني: إن نصرتنا لإخواننا في فلسطين هي نصرة لعقيدتنا وإيماننا قبل كل شيء، إنها نصرة لمقدساتنا وقبلتنا الأولى ومسرى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، إنها نصرة لعقيدة التوحيد والرسالة الخاتمة التي رسخها الله سبحانه وتعالى عندما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالأنبياء إماما في حادثة الإسراء والمعراج. إن للمسجد الأقصى حق على كل مسلم لا يسقط بالتقادم والتخاذل أو يفتر بتغير الأجيال. لم يخصْ القرآن الكريم سوى مكانين مقدسين بالتقديس الإلهي: المسجد الحرام والمسجد الأقصى. وهما في ذلك رمزان وحيدان لهذا التقديس الإلهي. أيتخلى المؤمن عن مقدساته؟ أيفرط فيها ويتركها تداس وتسلب وتهان؟ لإن فعل ذلك فإن صفة الإيمان تنتفي منه وحماية الرحمن تختفي عنه. يتبع هذه العقيدة الراسخة القلب الموقن بعدالة القضية ونصر الله لها مهما طال أمد الظلم والاحتلال. إنها النصرة الوجدانية التي بدونها لا يتحقق أي مظهر من مظاهر النصرة الأخرى. إن لم يخفق القلب وتصبه لوعة الحزن والأسى على ما يعانيه إخواننا المظلومون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، فلن يكون هناك أي معنى للتضامن أو للنصرة. إن لم يتداع قلبنا بالألم والكمد على حال المقدسات المكلومة وحال فلسطين ومقاوميها ومرابطيها وأسراها ومهجريها ونازحيها، فلن نحرك ساكنا ولن نرفع ظلما. كما أن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل فكذلك النصرة فهي ما اختلج في القلب وأقره الفعل أيا كان هذا الفعل مقاوما، أو مرابطا أو مجاهدا أو بتعبير النصرة فعلا رافعا للظلم.

التجلي الفكري الثقافي الإعلامي:

من القلب، ننتقل إلى العقل وفعل العقل الذي هو الفكر. كيف ننصر قضية أرض وشعب من خلال الفكر؟ علينا أن نخوض معركة رفع الوعي بهذه القضية وبحقائقها الثابتة والأبدية رغم تشويش المعلومات المزيفة والكاذبة. إن التعريف بالقضية الفلسطينية عبر التاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا مسعى حيوي في التحسيس بمحورية الحق الفلسطيني. إن الفكر والثقافة هما مصنعا المقاومة والممانعة، هما من يمرران القضية المبدأ والموقف عبر الأجيال. إن لكليهما الدور الجسيم والبناء في إعادة المعنى لهذه القضية الجوهرية في حياة الأمة. فالإنتاج الفكري الثقافي ومن بعده الإعلامي هو الذي يحمل مشعل تخليد مظلومية وأحقية الفلسطينيين بوجودهم على أرضهم وأرض أجدادهم في وعي الأمة الجماعي.

التجلي المادي الاقتصادي:

كما ولا تتحقق النصرة ابتداء وانتهاء دون ذكر التجلي المادي الاقتصادي الذي عبر عنه الحديث الشريف: عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس فقال أرض المنشر والمحشر إئتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة فيما سواه قالت أرأيت من لم يطقْ أن يتحمل إليه أو يأتيه؟ قال فليهد إليه زيتاً يسرج فيه فإن من أهدى له كان كمن صلى فيه (رواه أحمد 6/463) وابن ماجه 1/429)).

أن نعبر عن الود والتراحم والتعاطف مطلوب جدا إلا أنه لا يكفي بالتأكيد لدعم إخواننا في فلسطين السليبة، بل لا بد من نصرتهم ماديا واقتصاديا. كيف للمرابط وللنازح وللمقاوم أن يثبت ويدفع الظلم عنه بدون عصب الحياة؟ كيف له البقاء وأبسط مقومات البقاء منعدمة؟؟ هذا من جهة، من جهة أخرى، كيف يمكن أن يتم تقديم الدعم المادي للفلسطينيين من هنا وفي نفس الوقت، تقديم نفس الدعم المادي للعدو من هناك؟ نعم، المسلم قد يدعم أخاه في فلسطين ويدعم عدو أخيه في آن واحد. كيف ذلك؟ عندما يتم تقديم الدعم المادي لفلسطين وفي نفس الوقت يتم اقتناء والترويج لمنتجات أو خدمات داعمة للكيان المحتل. إن لم يتم نهج خيار المقاطعة كخيار أوحد لا حياد عنه، فإنه يتم تقديم الدعم المادي الذي يقوي ويعزز اقتصاد العدو المحتل. عار علينا إذا فعلنا عظيم.

ختاما، لكل تجليات النصرة هاته أهمية قصوى بحيث يصبح من الأولويات العظام ضخها في النسيج الأسري بدءا، ثم الاجتماعي ثانيا. فمن خلال هذا الضخ، سيتشربها الأجيال وسيتم توريثها طيلة عصور متعاقبة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فكما أن للنصرة امتداد أفقي، تعكسه التجليات السابق ذكرها فإن لها امتدادا عموديا يظهر من خلال الحديث الشريف التالي:       

في مسند الإمام أحمد بن حنبل 5/269 (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من البلاء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك قالوا يا رسول الله وأين هم قال في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس).

إننا، عندما نحيي أو نخلد مناسبة أو حدثا له صلة بالشأن الفلسطيني، أيا كان، فإننا نتحدث عن احتفاء بنصرة أعمار لا بتضامن أيام. نصرة لا تندثر بمرور الأزمان حتى تنقشع الغمة عن هذه الأمة ولن تنقشع إلا بعد أن ينزاح العدو الجاثم من على أرض فلسطين وإلا بعد أن يرفع الظلم عن شعبها المرابط الممانع المجاهد وترد المظالم إلى أهلها. 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى