معركة باب الرحمة تتجدد – زياد ابحيص

شبكة كهرباء مدمرة لم تترك مصباحاً واحد تمكن إنارته، هكذا وجد المصلون مصلى باب الرحمة عندما وفدوا إلى صلاة ظهر ثاني أيام عيد الفطر.

بكل ما أوتوا من إرادة بدأت أعمال الترميم لإعادة المصلى لما كان عليه، بحلول الليل أكملت الأوقاف أعمال الترميم التي عاد الاحتلال لتخريبها صباح اليوم الرابع من شوال، ولتحاصر قواته المصلى وتسطو بقوة السلاح على تجهيزاته التي أوقفها له المصلون تقرباً إلى ربهم، أكياسٌ محملة بالمدافئ والمراوح ووصلات الشحن والكهرباء وكل ما أهدي للمصلى على مدى سنوات تخرجها قوات الاحتلال في عملية سطوٍ تتورع عنها حتى أحط المافيات، أمام عدسات الكاميرات، لتعود في اليوم التالي لتعتقل الشابة التركية التي أسهمت في توثيق هذا السطو، وتقتحم المصلى بالأحذية مراتٍ عديدة وتصادر هويات المصلين فيه لترهيبهم؛ فما سر هذا الإصرار على العدوان على باب الرحمة؟ وفي أي سياقٍ يأتي، ولماذا يتجدد كل عام بعد شهر رمضان تحديداً؟

أسئلة يحاول هذا النص أن يجيب عليها بتدرج ينطلق من السياق العام، إلى علاقة شهر رمضان المبارك بالمعركة، وصولاً للعدوان الحالي وسر الإصرار عليه، لينتهي بواجبات المرحلة.

أولاً: السياق العام لمعركة باب الرحمة:

لم يعد خافياً أن الاحتلال يخوض حرباً وجوديةً على المسجد الأقصى المبارك، وأن تصاعد الصهيونية الدينية كتيار أساسي في الجماعة الاستيطانية وفي الأحزاب السياسية سمح لها بإضافة الإحلال الديني كبُعدٍ جديد إلى الطبيعة الإحلالية للاستعمار الصهيوني، إلى جانب الأرض والسكان؛ فباتت تستهدف مقدسات إسلامية بعينها بالإحلال، والمسجد الأقصى المبارك على رأسها حيث تسعى إلى إزالته من الوجود وتأسيس الهيكل المزعوم في مكانه وعلى كامل مساحته.

لقد أدركت الصهيونية الدينية منذ بدء مسار نفوذها الصاعد بأن مثل هذا الحلم بعيد المنال؛ فالمسجد الأقصى إسلامي بكامل مساحته ومعالمه، والصلاة فيه هي حصراً للمسلمين، بل إن حق الدخول الحر إليه محصور بالمسلمين كذلك، فكان لا بد لها من بلورة استراتيجية مرحلية قائمة على محاولة إعادة تعريف المسجد الأقصى من كونه مقدس إسلامي خالص إلى كونه مقدساً مشتركاً، تمهيداً لتحويله إلى مقدس يهودي خالص مع مرور الزمن.

عبرت هذه الاستراتيجية عن نفسها عبر ثلاثة مخططات مرحلية: التقسيم الزماني، ثم التقسيم المكاني، وأخيراً التأسيس المعنوي للهيكل بفرض كامل الطقوس التوراتية في المسجد الأقصى. وقد جاء استهداف مصلى باب الرحمة في سياق ثاني هذه المخططات المرحلية من ناحية ترتيبها الزمني: التقسيم المكاني.

كان مصلى باب الرحمة عملياً المدخل إلى التقسيم المكاني في نظر الاحتلال انطلاقاً من سابقتين أسس لهما: الأولى عام 2000 بمنعه للأوقاف من إخراج الردم المتبقي من فتح البوابات العملاقة للمصلى المرواني، وهو ما أدى إلى تكديسها في المساحات المزروعة بالزيتون في الجهة الشرقية من ساحة المسجد الأقصى، وأدى بالتالي إلى هجران تلك الزاوية من ساحة الأقصى عبر الزمن. أما السابقة الثانية فهي قرار محكمة الاحتلال بإغلاق مبنى باب الرحمة بصفته مقراً للجنة التراث الإسلامي التي قررت محاكم الاحتلال اعتبارها “منظمة إرهابية” وإغلاق مقرها، وكأنها تغلق شقة في زقاق هامشي، وهو القرار الذي أدى إلى إغلاق المبنى تحت وطأته. ورغم أن الأوقاف حافظت على عدم اعترافها به؛ إلا أن المبنى بقي مغلقاً طوال 16 عاماً ليفتح مرتين في السنة لتقديم اختبارات مدرسة ثانوية الأقصى الشرعية، أو كصالة شرف تستقبل فيها الوفود الرسمية الخارجية.

مع استمرار هذه العزلة بادر المرابطون إلى محاولة معالجة الردم المتراكم بأدواتهم البسيطة في 2013 ثم في 2018 لتهيئة الجهة الشرقية من ساحة الأقصى للصلاة، فشعر الاحتلال أن تعويله على الزمن بدأ يفشل، فاستحدث نقطة حراسة فوق باب الرحمة في شهر 7-2018، وأخذ يراقب منها الساحة الشرقية ويبعد ويعتقل كل من يقترب منها للصلاة، وأخيراً وضع قفلاً على البوابة الحديدية الخارجية لباب الرحمة في 16-2-2019 بينما كان الحديث عن صفقة القرن في ذروته، وهجمة الانبطاح العربي التطبيعي يجري التحضير لها تحت الطاولة، فظن أن الوقت مواتٍ لقطف الثمار. جاء الرد بإرادة شعبية لطالما كانت الدرع الحامي للأقصى، ففرضت هبة باب الرحمة، فتح المبنى في 22-2-2019 وأعادته إلى أصله مصلىً وجزءاً لا يتجزأ من المسجد الأقصى المبارك.

منذ ذلك التاريخ والاحتلال لا يستطيع ابتلاع شوكة هزيمته في باب الرحمة، واضطراره للتراجع أمام عشرات آلاف المرابطين دون أن يمتلك الجرأة ليضغط زناد رصاصة أو قنبلة غازٍ واحدة، فبدأ يعمل على تجديد عزلة المصلى لإعادة إغلاقه، فيما كان المرابطون يخوضون معركة النَفس الطويل لكسر هذه العزلة، وهذا هو مفتاح فهم المعركة منذ ذلك التاريخ: فرض العزلة وكسرها.

ثانياً: لماذا يتكرر العدوان على باب الرحمة بعد رمضان في كل عام؟

أدوات كثيرة جربها المحتل لتجديد العزلة: فأخذ يبعد حراس المسجد الأقصى الذين يفتحون المصلى في كل يوم، فرد الحراس بفتح الباب بشكلٍ جماعي، وحين جرب أن يبعد مجموعات من الحراس بضربة واحدة دخلت عائلات القدس وعشائرها لتتعاهد على فتح المصلى بتناوب أسبوعي، فأدرك المحتل أنه يوقظ كوامن القوة المقدسية بعناده؛ فسلم للفتح اليومي لباب الرحمة في مثل هذه الأيام، بحلول الأسبوع الثالث من شهر 4-2019.

منذ ذلك الحين كان رمضان شهر تكريس المصلى واستعادة ارتباطه ببقية أجزاء المسجد بما يشكله من مدد بشري بالرباط:

-ففي رمضان صيف 2019: فُرش المصلى بالسجاد بعد أن كان مفروشاً بالحُصُر وسجادات الصلاة الصغيرة، ووُضعت خزانات الأحذية على بابه وجرى تنظيفه وجواره، وأخذت الأوقاف تُهدى إليه من مصاحف وخزائن حتى بات أكثر استعداداً لاستقبال المصلين، فأتبعت قوات الاحتلال ذلك باقتحامات متتالية لإخراج السجاد والسطو على خزائن الأحذية.

-في رمضان صيف 2020: كان المسجد الأقصى مغلقاً في إطار توظيف الاحتلال لجائحة كورونا ضده وضد المقدسيين، فالأقصى كان مغلقاً فيما كانت الأسواق من حوله مفتوحة تعجّ بالمتسوقين.

-في رمضان المتزامن مع صيف 2021: تعززت العناية بالمصلى بخزائن للمصاحف، وتزويده بعدد أكبر من المصاحف والتجهيزات من بينها مراوح، وعززت فواصل صفوف الرجال والنساء بفواصل خشبية وستائر، لكن معركة سيف القدس لم تسمح للاحتلال بالعودة إليه فوراً بعد رمضان، فبدأت تفرض عزلة طويلة الأمد بالعدوان الجسدي على المرابطين والمرابطات وتجديد سياسات الإبعاد.

-أما رمضان صيف 2022: فشهد صحوة مهمة تجاه المصلى: إذ أزال المرابطون نقطة شرطة الاحتلال الجاثمة على سطح المصلى، وفرشوا أرضيته بطبقة عازلة وسجادٍ جديد، وركبوا في جواره ثلاجاتٍ للمياه مع تمديدات الماء والكهرباء اللازمة، ووضبوا عوارض الخشب الأثرية المخزنة خلفه في شكل يصلح للجلوس عليها، وبلّطوا ممراً يصل مصلى باب الرحمة بالمصلى المرواني. مع انتهاء عيد الفطر ردت قوات الاحتلال بقطع تمديدات الماء والكهرباء عن المشارب، لكن المصلى كان يستعيد حقيقته من جديد كجزء لا ينفصم عن الأقصى.

-في رمضان الأخير الذي انتهى في شهر 4-2023: جدد المرابطون شبكة الكهرباء المكشوفة والمتهالكة، وعززوا الإنارة الضعيفة للمصلى، وعززوا المراوح بعدد إضافي، وركبوا سماعات وُصلت بنظام الصوتيات المركزي للمسجد، ورمّموا المَمرّ الرئيس الواقع إلى جنوب المصلى والذي يمنع الاحتلالُ الأوقافَ من استكمال تبليطه منذ شهر 4-2019 ووضعوا عليه يافطة حجرية أسموه فيها “ممر الصادقين”، ونظفوا المساحة المزروعة المجاورة له وهيأوها للصلاة وأسموها “حديقة المراغمة”. لم ينتظر الاحتلال انقضاء عيد الفطر هذه المرة، فكان في ثاني أيام العيد يخرّب شبكة الكهرباء ويكسّر المراوح ويسطو على السماعات وعلى المدافئ والفواصل الخشبية والعديد من التجهيزات.

ثالثاً: لماذا ازداد الإصرار الصهيوني في هذا العام؟

استبق الاحتلال شهر رمضان بتجديد قرار إغلاق مصلى باب الرحمة في وقت مبكر عن موعد تجديده السنوي المعتاد في شهر 7، وأبلغ الأوقاف بالقرار مع تغطيته برسالة من وزير الأمن القومي المجرم إيتمار بن جبير الذي سبق له أن تلقى طلب إغلاق المصلى من قاعدة ناخبيه من جماعات الهيكل المتطرفة، ويبدو أنه كان يحضر لإغلاق المصلى ليكون الإنجاز التالي لرمضان مباشرة، بعد أن يحقق لهم ما يريدون من استفرادٍ بالمسجد الأقصى في الفصح العبري، لكن رياح الرباط جرت بما لا تشتهي سفينته.

جاءت مبادرة المرابطين إلى فرض الاعتكاف منذ الليلة الثانية لشهر رمضان لتمنع استفراده بالأقصى، ولتفتح مواجهة إقليمية على أربع جبهات، في معادلة من الرباط المتحلي بالإصرار والمقاومة الجسورة التي تفرض المفاجآت والإسناد الشعبي العربي والإسلامي، فكان رمضان شهر انتصار للأقصى واستعادة لمركزيته من حيث أراده شهر استفرادٍ وكسر إرادة، وجاءت مبادرة المرابطين في نهاية رمضان لتستكمل كسر العزلة عن مصلى باب الرحمة بتأهيل الممرات ووصله بنظام الصوتيات وتجديد الإنارة؛ فكان من الصعب على المحتل ابتلاع تراجعين متتاليين، لكن المعركة التي فتحها في باب الرحمة سترتد عليه إن واصلها، إذا ما واجه الإرادة ذاتها بمختلف مكونات معادلتها.

في المحصلة، الاحتلال في معركته هذه يدور بين سقفين: سقف محاولة إعادة إغلاق المصلى وهو صعب المنال وربما يجدد فتح أبواب المواجهة لو مضى إليه، وسقف إعادة بحث أدوات فرض العزلة والقضم وهذا ما علينا مواجهته بالنفس الطويل والرباط واجتراح الحلول والمفاجآت.

رابعاً: واجبات المرحلة:

واجب المرحلة في جوهره هو منع الاستفراد بمصلى باب الرحمة، ومنع تجديد عزلته، والحفاظ عليه مفتوحاً لكل الصلوات دون استثناء وعلى مدار أيام الأسبوع، والحرص على امتلائه في كل صلاة جامعة من الفجر العظيم إلى الجمعة إلى الأعياد، والاستفادة من كل حضور بشري لتجديد اتصاله مع بقية أنحاء المسجد بكل وسيلة ممكنة.

ولعل أحد الأبواب المهمة اليوم هو أن ننشر “عهد باب الرحمة” لكل من يستطيع الوصول إلى المسجد الأقصى، عهد مع الله بالصلاة في باب الرحمة لكل من يتمكن من الوصول إلى الأقصى، صلاة فرض أو سنة راتبةٍ أو تحية مسجد أو نافلة من شتى أبواب النوافل، مراغمةً للمحتل، وتجديداً للعهد مع الحق، فهذا الباب رحمة لأهل الحق، عذاب وقهر للظالم المعتدي وشوكة في حلقه حتى لحظة التحرير.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى