القدس، وسؤال الحلّ الديني (2) – شيروان الشميراني

في القسم الأول من هذا المقال كان الحديث عن أهمية بيت المقدس دينياً من المنظور الإسلامي، وكذلك ما مرت به من أطوار ومراحل سياسية أثناء النزاع ، وفي هذا القسم الثاني نتحدث  : –

  • عن سؤال الحلّ الديني للمشكلة، فمن وجهة نظرنا الجواب يكون بالمقارنة بين الأديان رؤية وتاريخاً، و كالآتي:-
  • لو نظرنا إلى التاريخ، نرى أن بني إسرائيل لم يتلزموا بميثاق مقدس في مسيرتهم في الحياة، إن كتبهم مليئة بالحرب مع الأنبياء ومع الله أحياناً والنزوع المادي في تصور الحياة، وعلى ذلك جرّدوا الأرض من  التقديس، ودنسوها، فكان تدنيس المقدس بالضد من الفطرة والدين والتاريخ والواقع حيث إن بيت المقدس والمسجد الأقصى، وكذلك الكنائس التي تئن تحت رحمة الاحتلال لها حرمتها، كما دنسوها عند تشييع الإعلامية الفسطينية شيرين أبو عاقلة، إنهم يقومون بانتهاكات لا تنقطع لقداسة وطهرية المسجد الأقصى وحرقه، ومحاولة تدميره بذريعة بناء الهيكل،  ولبيوت الله الأخرى مثلما حدث لمسجد الابراهيمي في الخليل من تقتيل فيه، وفي مساء يوم الإثنين 2-10-2022 اقتحمت مجموعة من اليهود حرم الإبراهيمي في انتهاك صارخ وسخرية بمعتقد المسلمين استصحبوا معهم الموسيقى والبيانو مع الغناء والرقص بعد طرد المصلين منه، وإنهم مارسوا الظلم على الأرض التي بارك فيها ربهم، ويُؤذونَ أهلها من مسلمين ومسيحيين المظلومين في وقت أنهم هم أصحاب الأرض الحقيقيين ومن أهل الأديان السماوية، سلوكهم أنهم ينتهكون المقدس في الأماكن التي يحتلونها دون تردد وينتهكون حرمة الدين وحرمة الانسان، لأن العقلية الدينية التي تتحكم فيهم لا تضع الإعتبار  إلا للقوة وحدها ولا شيء غيرها، ولهذا من باب ميزان القوى والقوة  فهم يستولون على كل مكان تصله اليه أقدامهم إذا لم يُطردوا بالقوة والنار، و موقفهم من كل مكان  توهموا أن أسلافهم مكثوا فيه  ولو قليلاً ،أو  عبروا به عبوراً يحسبوه ملكاً لهم.

إنّ الواقع الماثل القائم ليس بحاجة إلى الإستدلال طريقاً للإثبات، كذلك إننا لن نكون مضطرين إلى نقل ما تحتويه كتبهم الدينية – لجلائها- من الزعم بأن الله كلفهم بعد العبور إلى أريحا بقتل كل سكان الأرض أمامهم وعدم الإبقاء على النساء، والإستيلاء عليها، وأن كل ما يمتلكه غيرهم من أموال وثروات فهي حلال لهم وملكهم، ولديهم من هذه القناعات والتعليمات الدينية الكثير الكثير.

فإذا كانت دولة الإحتلال وما تحملها من عقلية دينية والخضوع لأشد التفسيرات التوراتية التلمودية تطرفاً، وذاكرة عدائية تتحكم في سلوكهم، وهذه الممارسات التي لا تقف معها سوى الفاقد لكل قيمة معنوية ومادية عادلة، إذا كانت هكذا هي في الموقف من الآخر، فلا تؤتمن إذَنْ على دين وقناعات الآخرين، لا يمكن أن تكون هي المسيطرة والحاكمة الأمينة على الشعب الذي هو الأصل في الأرض، بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.

  • بالنسبة للمسيحيين فهم من مكونات النسيج الاجتماعي الحضاري للمنطقة، وهم مع المسلمين يد واحدة، يناضلون من أجل التحرير، تحرير الإنسان والأرض، فلا تمييز بينهم وبين المسلمين إجتماعياً، ويقدمون الشهداء على الطريق، وكنيسة بيت لحم كتلة الجمع المجتمعي بين كل السكان، وفي المنهج الإسلامي، فإن إستقبال الرسول – صلى الله عليه وسلم- لنصارى نجران في مسجده أسطَعُ دليل على الحياة المشتركة، بإستثناء الحروب الصليبية التي حاول الغرب عبر النفق الديني العبور إلى الشرق وعينه على الثروات لسلبها ونهبها وأطماعه التوسعية، فإن عموم العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في الشرق لا غبار عليها، لأن القدس والناصرة وبيت لحم ويافا وغيرها بلاد مقدسة عند المسيحيين. و إنهم ينتسبون إلى حضارة المسلمين وإن لم ينتسبوا إلى عقيدتهم.
  • أما الإسلام، والحلّ الديني الحضاري الذي يحمله، ويقدمه للجميع، ففيه أبرز ما يبحث عنه العقل المعاصر، في ترتيب العلاقات الدولية وبين مكونات المجتمع الواحد، وللتاريخ دلائل وشهادات في منهجية التدبير بين مختلف الأديان والثقافات والأعراق داخل المجتمع المسلم القائم على حق الحرية الدينية وحمايتها.
  • في دستور المدينة رتَّب ونظَّم النبيُّ – عليه الصلاة والسلام- طبيعة العلاقة بين المسلمين وغيرهم خاصة من اليهود،فقد نص على أن ” اليهود أمة مع المؤمنين… لليهود دينهم وللمسلمين دينهم… مواليهم وأنفسهم…وأن بطانة اليهود كأنفسهم إلا من ظلم منهم أو أثم” ، وهذا أصل تشريعي.
  • العهدة العمرية لأهل إيلياء عام 16 للهجرة.. “أعطاهم [ عمر بن الخطاب] أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقمها وبريئها وسائر ملتها.. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود”
  • نوعية تعامل المسلمين مع غير المسلمين عبر التاريخ، من مثل تعامل صلاح الدين الأيوبي مع المحاربين وغيرهم أثناء وبعد الحرب في بيت المقدس، و قوله لريتشارد قلب الأسد ” إن بيت المقدس مدينة مقدسة بالنسبة إلينا ، ونحن نقدسها أكثر منكم، لأنها منها بدأ الرسول [ صلى الله عليه وسلم] إسراءه ليلاً إلى السماء، وهنا إجتمع الملائكة من حوله”[1].
  • إحترام الإسلام ومبادئه للمقدسات وحماية المقدس من التدنيس وكرامة الإنسان -كل إنسان- من الإنتهاك، وهذا واجب بنص إلهي في القرآن الكريم وليس منة، { ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍۢ لَّهُدِّمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَٰتٌ وَمَسَٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسْمُ ٱللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ } [ الحج: 40]

إذن.. إن القدس والمسجد الأقصى أرض مقدسة، لا تقاس بغيرها، وان التدنيس الحاصل لها ولتاريخها وفطرتها، لا مناص من تطهيرها، وهي قضية روح للمسلم، والمسيحي الفلسطيني كذلك.

لقد تعرض خلال قرن من الزمان لإخراجها من الدائرة الإسلامية إلى الدائرة القومية إلى الدائرة القطرية، وبعدها إلى دائرة ضيقة جداً في الداخل الفلسطيني، لكن المسلم يتعاطى معها من بوابة حمل الأمانة الإلهية، والرباط المقدس ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وتشديد الوثاق بحائط البراق، بكل معانيها الأخلاقية، الإنسانية، والحقيقة تؤكد أن هذه الأرض كانت لها أهلها وسكانها، وهم مازالوا حاضرون فيها، ليس من مجال سوى عودة القادم المغتصب إلى حيث أتى، والإبقاء على الأهل وأصحاب الأرض الحقيقيين عبر آلاف السنين، فحق الإمتلاك لا ينتقل، ولا يغتصب، ومن ثم يعيش الجيمع إخوة متحابين في سلم أهلي كامل وإحترام جامع لكل الأديان والمذاهب ومقدساتهم.

 

**

[1] ) زيعريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب، دار صادر، بيروت، 2002، ص 228، وقد سردت هونكه سرداً جميلاً كيف أن الغرب تعلم من المسلمين منذ  التعامل بين أهل الأديان بعيداً عن العنف والسلاح.في الفصل المخصص بعنوان ” موحد الشرق والغرب”.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى