الإدريسي يكتب: في قيمَة العَدل – 18 –

أَنْ تتِّصف بقيمَة العَدل، معنى ذلك أن تكُون إنسانا، ذلك أن الاتِّصاف بهذه القيمة القُرآنية العظيمة والأصيلة، ينقل الشَّخص من دائرة اللامعنى إلى دَائرة المعنى، ومن الكَلِّية إلى الفَاعلية، ومن السَّفَه إلى الرّشد، ومن الإفساد إلى الإصلاح، ومن الغَي إلى الهُدى، وعندما نتحدث عن قيمة العدل بمفهُومها القُرآني فإننا نتحدث عن قيمة لها أبعادُها النفسية والاجتماعية والسياسية والثقافية، والعمرانية والحضارية، نظرا لآثارها المهمة وجودا، والخطيرة عَدَما.

وقيمَة العدْل في الرّؤية القرآنية تعتبر محوراً للرسَالة والنبوة، ومرتكزا للإرشاد والدعوة، ومرجعا في التشريع وحفظ الحقوق، لأن العَدل مطلوب في كل المجَالات والميادين لأنه أساس لتحقيق الأمْن النفسي والاستقرار السِّياسي والتماسُك الاجتماعي في حياة الأفراد والجماعَات، والأمم والحضارات، وصَدَق الإمام ابن تيمية في قولته السُّنَنِية: “إن الله ينصُر الدولة العادلة ولو كانت كافرةً، ويخذل الدولة الظَّالمة وإن كانت مسلمةً”.

ونظرا لأهَميتها في التَّنزيل الحَكيم فقد تكررت مَادة العدل فيه بمُشتقاتها حوالي ثلاثين مرة، وهذا ما دفع بالإمام بديع الزمان سعيد النُّورْسي إلى أن يجعلها من أهم مقاصد القرآن الكريم، حيث يقول:” إن المقاصد الأساسية من القرآن وعناصره الأصلية أربعة: التوحيد والنبوة والعدالة أو العدل”(صيقل الإسلام)، أما عالم الأخلاق القرآنية الدكتور داود رهبر فقد أكد أن الله تعالى هو رب العدالة، حيث بين في كتابه (رب العدالة.. دراسة في الدّستور الأخلاقي في القرآن)، أن المبدأ الأسَاسي للعلاقة بين الله والإنسان في الرؤية القرآنية هو الخوف من الله تعالى العادل، حيث استحضر في منهجيته حالة الظلم والاستبداد التي كان مستشرية في المجتمع الجاهلي، وفي المجتمعات المجاورة، وكيف أن الإنسان مُحقت كرامته عبر الاستغلال والاستعباد.

وإذا تأملنا بعض الآيات القُرآنية سنجد قيمة العَدل تشكل محور العشرات من القضايا الكبرى والأساسية في القرآن الكريم، على اعتبَار أن قيمة العدل من القيم الصّلبة التي تستند عليها الكثير من القِيم القرآنية الأخرى، فمثلا نجد من بَين أهم مقاصد وغَايات النبوة الدَّعوة إلى توحيد الله تعالى، وفي الوقت نفسه الدعوة إلى إقامة العَدل والقسط بين الناس، يقول تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ سورة الحديد،الآية:25، وفي قوله  تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ سورة المائدة، الآية:8، فمضمون  الآية  واضِح  في  أن  الاتصَاف  بالعدل والقسط  هو من مقتضَيات  الإيمان، وتجلٍّ  من تجليات  التّقوى، ولذلك  كان الحث على   الاتصاف  بالعدل بصيغة  المبالغة قوَّامين وليس قائمين فقط،  وضَرُورة  المحافظة   على تمثّل قيمة  العدل في كل الوضعيات  والحالات،  دون  أن  يؤثر على  هذا  التمثل  أي  خلاف أو  صراع، أو  اتباع لهوى النفس، لأن  القيام  القسط  ويلوك  العدل جوهر  الدين و سلامة التدين.

وبذلك وسَّع الاستعمال القرآني دلالة مفهُوم العدل ليشمل المساواة وأداء الحقوق والقيام بالواجبات، واسترجاع المظَالم، والضرب على يد الظَّالم، في تساوق بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بين حق الله تعالى وحق النفس وحق الغير وحق البيئة، والأمر الذي يجب التأكيد عليه أن قيمة العدل تتخذ بُعدا إجرائيا في هذا مُراعاة هذه الحُقوق جميعا، والسَّعي لصيانتها وتعزيزها، يقول الدكتور أحمَد الريسوني:” فإذا أخذنا  على  سبيل المثال  قوله  تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ سورة النحل، الآية:90، نجد  فيهما  الأمر  بقضِيتين كُليتين كبيرتين، هما “العدل والإحسان”، إذ هما  تشملان كل  شي  وتدخلان  في  كل شيء، فما من مجال، وما  من عمل  قلبي أو حسي، إلا  ويدخله العدل والإحسان، وما  من قول يقوله  الإنسَان إلا ويدخله العدل والإحسان، وهما  مطلوبان ومأمُور  بهِما  في كل  المجَالات وكل الحَالات وعلى  كل  الأحوال”(الكليات  الأساسية  للشرعية  الإسلامية).

وربط الحَق سبحانه بين أداء الأمانة والحُكم بالعدل في قوله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ سورة النساء، الآية:58، والرسول الأكرم  عليه السلام  جسد  هذه  القيمة، ليكون  بذلك  القدوة  والأسوة  فقد  ثبت  عند البخاري وغيره   ” أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا”.

وسار على النهج نفسه، والسَّنَن نفسه، جيل الصّحب الكرام والأئمة الأعْلام، فهذا أبو بكر الصِّديق رضي الله عنه لما وَلِي خليفة رسول الله عليه السلام، يقول في خطبته الأولى، وهي بمثابة تعاقد سياسي بعد توليه مسؤولية وأمانة تدبير شؤون الأمة: “وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني…القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه”، لأنه يعلم أن لا استقرار للمجتمع وتحقيق مصالح الأمة دون عدل وأمانة، ومحاسبة وعدالة. وجاء من بعده الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان يُضرب به المثل في العدل عند الموافق والمخالف: أليس هو القائل: “لو عثرت بغلة في العراق لسُئل عنها: لِمَ لَمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟!”. وهو الموصُوف من طرف رسول ملك الفُرس الذي وجده ينام وحيدًا تحت شجرة، فينظر إليه قائلاً: “حكمت فعدلت فأمنت يا عمر.

والتَّرتيب في حديث السبعة ترتيب وظيفي ، حيث  جعل على رَأس هؤلاء الأصناف  السبعة الإمام العادل أو الإمام العدل، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله عليه السلام قال: (سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلَّا ظلُّه: إمامٌ عادلٌ وشابٌّ نشَأ في عبادةِ اللهِ تعالى ورجلٌ ذكَر اللهَ خاليًا ففاضت عيناه ورجلٌ ـ كان ـ قلبُه معلَّقٌ في المسجدِ ورجُلانِ تحابَّا في اللهِ: اجتمَعا عليه وتفرَّقا، ورجلٌ دعتْه امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ إلى نفسِها فقال: إنِّي أخافُ اللهَ، ورجلٌ تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها حتَّى لا تعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يمينُه) [صحيح ابن حيان].

لأن القَائم بالعَدل في أي مستوى من مستَويات المسْؤولية، من حراسَة الحُدود إلى رئاسة الدَّولة، يفوز بهذه البشَارة لأنه حريص على عدم الظلم والجور، ولما يمثله من قدوة لباقي أفراد المجتمع.

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى