علماء القرويين القضاة .. من زمن الأدارسة إلى العلويين (2)

1 – العلماء القضاة في عهد الأدارسة

نشأت دولة الأدارسة في أواخر القرن الثاني الهجري سنة 172هـ على يد إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط. وكانت أول دولة إسلامية مستقلة عن الدولة العباسية، امتدت فتوحاتها إلى تلمسان. وتوسعت الدولة في عهد ابنه إدريس الثاني الذي تولى الحكم فعليا سنة 192هـ.[1] يقول عنه الزركلي: “وكان جوادا فصيحا حازما، أحبته رعيته، واستمال أهل تونس وطرابلس الغرب والأندلس إليه.”[2] وبعد مبايعته وفد عليه كثير من العرب المهاجرين ودخلوا في خدمته، فقرر بناء مدينة فاس؛ وعندما وصل إلى عين المكان ليختط شوارع وأبواب وجسور المدينة العاصمة قدموا له فأسا بديعة مصنوعة من الذهب والفضة ليفتتح بها أعمال البناء والتشييد، اقتداء بعمل جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، رفع إدريس الثاني يده متضرعا إلى الله سبحانه وتعالى وقال: “اللهم اجعلها دار علم وفقه، يتلى فيها كتابك، وتقام بها حدودك واجعل أهلها متمسكين بالسنة والجماعة ما أبقيتهم.”[3]

فإذا كانت الفسطاط والقيروان قد تميزتا بكونهما نفحتين زكيتين من الصحابة والتابعين، فإن الله تعالى آثر فاس فتنورت بنسبها إلى آل البيت.[4] لقد أبدع عبد الهادي التازي في وصفه لمدينة فاس حيث قال: “لقد وضع إدريس الحجرة الأولى للمدينة، ولكأنما وضعها لحي جامعي دائم الحياة، فقد بلغ عدد الكراسي العلمية فيها في بعض الأحيان مئة وأربعين كرسيا، تعاقب عليه كبار العلماء والفقهاء والأدباء والأطباء… ولكأنما وضعها لمركز ديني ظل على مر الزمان قبلة للمؤمنين يحجون إليها من مختلف الآفاق، لتصفية نفوسهم، وتبيين طريق وجهتهم… ولكأنما وضعها لقاعدة سياسية ما انفكت صاحبة الحل والعقد في كل التطورات الهامة التي شهدتها الدولة، وما انفكت تسهم بالحظ الأوفر في تسيير شؤون البلاد وتدبير أمورها في الداخل والخارج… ولكأنما وضعها لسوق تجارية قصدها الناس بتحفهم ونفائسهم وراحوا وهم أكثر ما يكونون كسبا وغبطة… ولكأنما وضعها لدار صناعة تجلى فيها جمال الذوق وسلامة المزاج.”[5]

 أنشأ الإمام إدريس الثاني بفاس بلدة صغيرة سميت بعدوة القرويين، ثم وفدت جماعة من المسلمين من الأندلس وأنشأوا قرية مجاورة تسمى عدوة الأندلسيين، وتكونت مدينة فاس من العدوتين.[6]

بعد وفاة إدريس الثاني سنة 213 هـ، قسم ابنه محمد الدولة بين إخوته الكثيرين. عاشت الدولة الفتية التي لم يكتمل نموها سلسلة من الانشقاقات والاضطرابات لمدة مئة عام، مما أضعفها وأدى إلى زوالها. بلغت مدينة فاس أوجها في عهد يحي الأول بن محمد بن إدريس (234هـ – 250هـ)، فقامت فيها المنشئات وكان من أبرزها بناء جامع القرويين الذي غير وجه تاريخ المغرب.[7]

تميزت دولة الأدارسة بالمرونة والحكمة في استغلال الفرص أمام ضغط القوات التي تصارعها، فتارة تنضم إلى الفاطميين وتارة أخرى تلجأ إلى الأمويين بالأندلس، هذه المرونة جعلتها تعمر أكثر من قرنين من الزمان.[8] يقول ابن أبي زرع “كانت مدة حكم الأدارسة من يوم بويع إدريس بن عبد الله بمدينة وليلي سنة 172 هـ إلى قتل الحسن بن القاسم كنون الإدريسي سنة 375هـ مائتين وسنتين وخمسة أشهر وكان عملهم بالمغرب من السوس الأقصى إلى مدينة وهران، وقاعدة ملكهم مدينة فاس، وكان سلطانهم إذا قوى امتد إلى وهران أو تلمسان، وإذا ضعف لا يجاوز أصيلا وكان في أيامهم الرخاء متواليا.”[9]

أما حسين مؤنس فيعتبر دولة الأدارسة “من الدول الطويلة العمر فقد قامت في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، ولكنها لم تنته تماما إلا في أواخر القرن الرابع الهجري (375هـ) وقد عمرت فوق القرنين ونصف، أي ضعف ما عمرته دولتا الأغالبة والرستميين وثبتت لمحنة الفاطمية وجيوشها، وخاضت طوال تاريخها حرب بقاء أو موت مع الدولة الأموية الأندلسية حينا وإلى جانبها حينا آخر، ولكنها مع ذلك العمر الطويل والحيوية المتجددة، كانت من صغار الدول سواء في سعة مملكتها أو قوة أئمتها، ولكنها كانت من أهمها من الناحية الحضارية، فقد كان لها في تاريخ المغرب أثر حاسم في صياغة مذهب السنة من ناحية وتعريب البلاد من ناحية أخرى، وقد مرت بفترات احتضار طويلة وانتعشت مرات كثيرة.”[10]

كان نظام الحكم في عهد الأدارسة يرتكز على عدد قليل من الوزراء، بعكس النظام الذي كان موجودا في الأندلس لدى الأمويين، واستعان الأدارسة في تسيير شؤون الدولة بالبربر والعرب الذين قدموا أيام إدريس الثاني. “وإلى سنة 186 لم يكن لإدريس الثاني وزير أو قاض أو حاجب أو كاتب.” [11]

لقد استمدت مدينة فاس حضارتها في عهد الأدارسة من القيروان وقرطبة، وصارت بعد ذلك مركز إشعاع حضاري في المغرب وخارجه. وإذا كان الأمويون قد عملوا على إقرار المذهب المالكي بالأندلس بفضل نفوذهم السياسي، فإن علماء المغرب الأولين الفقهاء والقضاة الذين درسوا مباشرة على مالك أو تلقوا علمهم من فقهاء الأندلس والقيروان هم الذين ساهموا في إقرار هذا المذهب بمجهوداتهم الفردية،[12] وذلك بتشجيع من مؤسس الدولة الإدريسية، ويؤكد على ذلك الوثيقة التي نشرها لأول مرة علال الفاسي، والتي تبين بوضوح اهتمام إدريس الأول بالسنة.[13] يقول حسين مؤنس: “من الأخطاء الشائعة القول بأن دولة الأدارسة دولة شيعية لأن مؤسسيها وأمراءها كانوا من آل البيت، والحقيقة أن الأدارسة رغم علويتهم لم يكونوا شيعيين، بل لم يكن أحد من رجال دولة الأدارسة أو أتباعهم شيعيا، فقد كانوا سنيين، لا يعرفون الآراء الشيعية التي عاشت على أيام الفاطميين، ولم يعرفوا في بلادهم غير الفقه السني المالكي، ومن البديهي أن آل البيت لا يمكن أن يكونوا شيعة لأحد، أما الشيعيين فهم أنصارهم، والوصف الصحيح لهذه الدولة هو أنها كانت دولة علوية هاشمية، وهي أول تجربة نجح فيها أهل البيت في إقامة دولة لأنفسهم.”[14] ويقول إبراهيم أيوب: “أسهم الأدارسة في خدمة المسلمين عن طريق تثبيت البربر على الإسلام، فكان ظهور دولة الأدارسة مقدمة لظهور دولة المرابطين الذين أكملوا ما بدأه الأدارسة في تثبيت إسلام البربر، ونشر الإسلام في غرب إفريقيا في عهدهم ويرجع الفضل إلى جامع القرويين في تكوين المذهب المالكي وترسيخه وإعداد نخبة من العلماء لخدمته: تأصيلا وتفريعا وتنظيرا، فانتقل من المغرب إلى باقي بلدان إفريقيا.”[15]

كانت شؤون تسيير جامع القرويين والتدريس به تدخل في اختصاصات القاضي، وكان العلماء يتطوعون بإلقاء الدروس داخل الجامع، ويشتغلون بوظائف يعيشون منها، ومن أشهر قضاة الأدارسة:

– القاضي عامر بن محمد بن سعيد القيسي، وكان من أهل الورع والفقه والدين ولي قضاء فاس، وساهم في نشر المذهب المالكي بالمغرب.[16]

– أولاد بكار بن راشد، حاجب المولى إدريس، ولي القضاء منهم ثلاثة قضاة، انقرضوا ولا عقب لهم.[17]

– عبد الملك بن الودون الزواغي ولي قضاء فاس في بداية دولة مغراوة. ينتمي إلى بيت علم وعدالة وفقه، وهم الذين كانوا يملكون موضع المدينة قبل أن يشتريه الإمام إدريس بستة ألاف درهم. توفي سنة  369هـ. تولى القضاء بعده ابنه محمد بن عبد الملك بن الودون الزواغي الذي ألف كتاب “تاريخ الأدارسة” الذي يعتبر مفقودا.[18]

– محمد بن إدريس بن دجانة جمع بين القضاء والإفتاء والتدريس بجامع القرويين. توفي سنة 369 ه.[19]

– محمد بن البان الأزدي ينتمي إلى أسرة عالمة، تولى قضاء فاس في دولة مغراوة. توفي سنة 369هـ.[20]

لقد كانت مهمة علماء القرويين القضاة في هذا العصر هي البناء والتشييد والتأسيس، والعمل على نشر المذهب المالكي بالمغرب، وتثبيت الرعية على الإسلام، وإعداد نخبة من الفقهاء لخدمة الدين. وتميز هذا العصر بالرخاء على العموم، ولم يشهد أي تعنيف أو قهر أو مضايقة للعلماء القضاة. لقد رفض الأدارسة فرض الضرائب والمكوس على الرعية، رغم أن وضعيتهم الاقتصادية كانت صعبة في بعض الأحيان، لقد أحبهم المغاربة، ولقبوا أمراءهم بالأئمة. 

بقلم الدكتورة: آمنة هدار

لقراءة الحلقة (1) اضغط هنا


المصادر:

[1]– انظر إبراهيم، حركات، المغرب عبر التاريخ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2009، ج: 1، ص: 128-132.

[2]– انظر خير الدين، الزركلي، الأعلام، دار العلم للملايين، لبنان، ط: 15، 2002، ج:2، ص: 337.

[3]– انظر أبو العباس أحمد بن محمد، بن القاضي، جذوة الاقتباس فيمن حل من الأعلام  مدينة فاس، تحقيق محمد بن عزوز، دار ابن حزم، مركز التراث الثقافي المغربي،  بيروت، الدار البيضاء، 2014، ص: 47.

[4]– انظر عبد الهادي التازي، جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس موسوعة لتاريخها المعماري والفكري، دار النشر المعرفة، ط: 2، 2000،ج: 1، ص: 45.  

[5]– انظر عبد الهادي التازي، جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس موسوعة لتاريخها المعماري والفكري، دار النشر المعرفة، ط: 2، 2000،ج: 1، ص: 45.     

[6]– انظر حسين، مؤنس، معالم تاريخ المغرب والأندلس، دار الرشاد، ط: 5، 1997، ص: 129.

[7]– انظر المرجع نفسه.

[8]– انظر “حضارة الأدارسة”، دعوة الحق، عدد: 38.

[9]– انظر إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2009، ج: 1، ص:107.

[10]– انظر حسين مؤنس، معالم تاريخ المغرب والأندلس، دار الرشاد،  ط: 5، 1997،  ص :122.

[11]– انظر إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2009، ج: 1، ص: 110.

[12]– انظر المرجع نفسه ص: 114-115

[13]– انظر الوثيقة مفصلة في إبراهيم حركات،  المغرب عبر التاريخ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2009. ج: 1، ص: 116-119. يقول علال الفاسي إن الوثيقة نشرت في مجلة التضامن سنة أولى، عدد: 3، 1974، والمخطوط الذي نقلت عنه هو “المرجع الشافي” لعبد الله بن حمزة من أئمة الزيدية. يوجد هذا الكتاب باليمن.

[14]– انظر حسين مؤنس، معالم تاريخ المغرب والأندلس، دار الرشاد،  ط: 5، 1997، ص :122.

[15]– انظر إبراهيم أيوب، التاريخ السياسي العباسي والحضاري، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1989، ص: 166.

[16]– انظر أحمد، متفكر، قضاة فاس، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ص: 21.

[17]– انظر المصدر نفسه.

[18]– انظر المصدر نفسه، ص: 21، 23.

[19]– انظر المصدر نفسه، ص: 21.

[20]– انظر المصدر نفسه.

موقع الإصلاح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى