رمال يكتب: حاجتنا جميعا إلى قمّة التّعبئة في مواجهة الجائحة

مع بدايات انتشار هذا الوباء”كوفيد 19″ (CO-VID 19) كان الجميع يتوقّع -أو قُل يتمنّى- أن تكون هذه الأزمة مجرّد أزمة صحّية عابرة يكون عمرها قصيرا وتغادر بعد حين من بدايتها؛ مثلها مثل جميع الأزمات الصّحية التي عرفتها البشرية خلال القرن العشرين وبداية القرن الجاري والتي تظهر ثمّ تختفي في كلّ سنة في عموم بلدان العالم. إلاّ أنّه تبيّن يوما بعد يوم أنّ هذه الأزمة تشبه الضّيف الثّقيل الذي استقرّ  في البيت غير مبال بالمتاعب اليومية التي يسبّبها لأهله، ولا يبدو عليه عزم الرّحيل.

بالفعل؛ اليوم -على خلاف ما كان متوقّعا ومرجوّا- هذه الجائحة استقرّت وأصبحت تعيش معنا وبيننا بلا أجل موعود، ولم تعد أزمة صحّية فقط؛ بل -كما يجري في عموم بلدان العالم- تعدّدت مظاهرها وتبعاتها لتنتج أزمات حادّة ذات طابع اقتصادي واجتماعي وسياسي …..

وقد تبيّنت محدودية آثار جميع الجهود المبذولة من طرف الحكومات والهيئات الرّسمية المعنية بالمواجهة المباشرة للوباء وبالتّدبير الإجرائي للجائحة في بلادنا -كما في كلّ بلاد العالم-، وبدت هذه الجهود -على أهمّيتها- غير كافية؛ بِما فيها تدابير الحجر الصّحي والإجراءات القانونية والزّجرية المصاحبة له؛ حيث لم تستطع هذه التّدابير توقيف انتشار الوباء؛ بل عجزت عن مواجهة الارتفاع المتزايد في جلّ مؤشّراته (ارتفاع عدد الحالات المؤكّدة يوما بعد يوم– تزايد مطّرد في حالات الوفيات –ظهور يومي لبؤر جديدة في مناطق غير متوقّعة………..).

وإذا كان الرّجوع إلى الحجر الكامل والمتشدّد أمرا غير وارد؛ لِما سيسبّبه من مزيد تعطيل محرّكات النّموّ وعجلات الاقتصاد ومن سكتات قلبية في كلّ المجالات الحيوية؛ ومن ضيق خانق لأعداد متزايدة من الأسر في مختلف الطّبقات الاجتماعية؛ فإنّه يتعيّن البحث والتّنقيب عن تدابير وإجراءات إضافية من شأنها أن تخرج البلد من هذا النّفق المظلم الطّويل الذي أدخلته فيه هذه الجائحة وأن تبعث الأمل في غد قريب لا يبقى فيه مكان لكورونا.

إنّ الفاعل الأساسي المعوّل عليه في هذه التّدابير  هذه المرّة  هو “المواطن” الذي إذا اختار الانخراط بتلقائية وجدّ في مواجهة هذا البلاء كان بالتّأكيد لذلك الأثر البليغ والمباشر على مؤشّرات الجائحة.

وحركتنا التي جعلت من فعل “الإصلاح” عنوانا وتسمية لها؛ اختارت بكامل الوعي والمسؤولية أن تتوجّه في كلّ مجالات عملها الدّعوية والتّربوية والفكرية إلى هذا “المواطن الإنسان”لأنّه هو رأس المال الحقيقي للبلد وللوطن ويبقى هو الفاعل الأساس على أرض الوقع في نهاية الأمر. ولذلك تقول الحركة في رسالتها: <<“وتعتمد الحركة أساسا إعداد الإنسان وتأهيله، ليكون صالحا مصلحا في محيطه وبيئته. “[1]>>.

وهكذا نرى أنّ المقاربة التّوعوية التي تخاطب عقل ووجدان المواطن بكلّ تقدير واحترام وتجعله في مستوى تحمّل مسؤوليته كاملة؛ هو المدخل الأساس لمواجهة هذه الجائحة؛ قبل أي إجراء قانوني أو زجر أمني لا يرى فيه المواطن إلاّ طابع التّضييق على حرّيته؛قبل أن يطمئن إلى ما فيه من فوائد على صحّته وسلامته وأمن بلده.

والتّرتيب الطّبيعي للأشياء؛ كما في الأثر الثابت عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: <<إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن>>يقتضي أن يكون الأصل هو اتّعاظ النّاس بما في القرآن من زواجر ومناهي، وبعد ذلك؛ من لم ينفع معه “القرآن” تردعه عقوبات السلطان (العقوبات الحبسية والغرامات المالية …..).

ونحن في بلد مسلم والحمد لله، وقد فسّر بعض المحلّلين الغربيين عدم تواجد أي من البلاد الإسلامية ضمن الدّول التي تتصدّر التّرتيب العالمي لأرقام ومؤشّرات وباء كورونا، وكذا ضعف نسبة المصابين من أفراد الجاليات المسلمة داخل الدّول المتصدّرة لهذا التّرتيب؛ فسّره بما تزخر به تعاليم الدّين الإسلامي من آداب وقواعد سلوكية وقائية؛ من قبيل: ضرورة الغسل من الجنابة، وتكرّر الوضوء للصّلاة عدّة مرّات في اليوم واللّيلة، ووضع اليد على الفم عند التّثاؤب، وتغطية الفم والأنف عند العطس أو السّعال … وغيرها من القواعد والعادات الإيجابية والوقائية التي تنهل من السّنة النّبوية عند المسلمين. وهو ما يقوّي حظوظنا -أكثر من غيرنا- في القضاء على هذا الفيروس والحدّ من مضاعفات هذا الوباء. 

وحركة التّوحيد والإصلاح من موقعها المعتبر في العمل المدني المسؤول؛تمدّ يدها للمشاركة مع كلّ الجهات الممكنة من أجل تحقيق هذا الأمر على أرض الواقع؛ وذلك عملا بمقتضى “المشاركة الإيجابية” التي تعتبرها خاصّية من خاصّياتها المنهجية التي تميّزها؛ إذ تقول في ميثاقها: <<“نريدُها “مشاركة إيجابية” تحقِّقُ النفعَ للمسلمين، وتنصلح بها أحوالُ البلاد والعباد؛ فلا نريدُها لذاتها، ولا نسعى إليها بغير ما رؤية وقناعَة وفَهْم، إذِ الشَّأنُ الرسالة والدعوة والإصلاح. >>[2]. وكذا خاصّية “التّعاون على الخير مع الغير” حيث يقول ميثاق الحركة: <<فحيثما كان خيرٌ يُتاح لنا فيه بعضُ مساهمة إلاّ ورأينا بأنَّه من واجبنا أن نتعاون عليه مع غيرنا[3].

ومن هنا جاء اختيار هذا الموضوع لرسالة الإصلاح الأسبوعية بهدف الإسهام في رفع منسوب التّفاعل الإيجابي المسؤول للمواطن مع هذه الجائحة؛ من خلال عدد من الرّسائل الهادفة؛ من مثل التّذكير:

  • بأنّ المزيد من التّهوّر والاستهتار في التّعاطي مع هذه الجائحة إنّما هو مغامرة لا تجوز شرعا ولا تُقبل عقلا؛ لأنّه بات من المؤكّد أنّ ذلك يتسبّب في فساد أحوال النّاس وهلاك أرواحهم. ومن يُصرّ على اللاّمبالاة وعلى الاستمرار في تجاهل هذه الجائحة يوشك أن يكون ممن يُلقي بنفسه وأسرته ووطنه إلى المهالك والله تعالى يقول: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
  • وبأنّ الله تعالى لا يحبّ الفساد في الأرض؛ ومن تسبّب فيه فهو قطعا من المفسدين؛ قال تعالى:{وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[4]. وإن من أنواع الفساد المحرم أن يُسهم الإنسان ولو عن غير قصد في إهلاك الأرواح، وإغلاق المعامل والمنشئات الاقتصادية الذي تضر بالبلاد والعباد، وقد قال تعالى في وصف هذا النوع: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}[5].
  • وبأنّه إذا تظافرت جهود الجميع في اتّجاه الإصلاح وتحمّل المسؤولية الفردية في مواجهة هذا الوباء فحاشا أن يخيّبنا الله فـ {مَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}[6] وهو سبحانه القائل: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}[7].
  • وبأنّ الملتزم بكافّة تدابير السّلامة المأمور بها من طرف الجهات والهيئات الوصيّة (التّباعد، وقناع الفم والأنف، والاكتفاء بالتّحيّة الشّفوية،…)؛ إنّما يلتزم بها من باب الوعي والمسؤولية والاستعداد للوقوف بين يدي الله للحساب؛ وليس من باب الخوف من السّلطات أو حتّى من الوباء نفسه؛ فقد يكون الفرد غير حريص على الحياة؛ لكنّه بالتّأكيد لن يكون حريصا على الوقوف بين يدي الملك الدّيان وفي ذمّته ظلم واعتداء على صحّة وأرواح عدد من المواطنين.
  • وبأنّ من يقصد بيتا من بيوت الله تعالى لأداء فريضة الصّلاة يتعيّن عليه أن يحرص -من نفسه- على الاحتياط والالتزام بكلّ التّدابير الوقائية المطلوبة حتّى لا يكون سببا في نقل الوباء من المصلّين أو إليهم،أو مُسهما في إعادة إغلاق المساجد ومنع الصّلاة فيها؛ فيعمّه وعيد الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[8].
  • وبأنه يجب اغتنام كل الوسائط الإعلامية لتوعية المواطن، وخاصة المسجد لما له من تأثير إيجابي على النفوس، فهو  فرصة جماعية للتّوعية المطلوبة؛ وفيه تلقى الخطب والمواعظ الرّاتبة ومجالس العلم التي تعوّد المواطن أن يسمع فيها خطابَ قربٍ يجد فيه العبرة المفيدة والذّكرى النّافعة{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[9]، ومن ثم فإن فتح مزيد من المساجد لن يكون إلا عامل زيادة وعي وتحسيس، بالإضافة إلى بعده الغيبي في الالتجاء الجماعي إلى الله تعالى بطلب الفرج.
  • وأنّ اللّقاح الذي سيتمّ اعتماده في عملية التّلقيح التي سيقدم عليها بلدنا هو ليس دواءً سيُشفى به كلّ المرضى؛ وإنّما هو مجرّد لقاح من شأنه أن يحدث ويقوّي المناعة ضد الفيروس؛ زد على هذا أنّ عملية التّلقيح لن تنطلق إلاّ بعد حين، وستتم عبر مراحل وبترتيب معيّن بالنّسبة للفئات المستهدفة. ولذلك فإنّ مشروع عملية التّلقيح لا يمكن أن يكون مبرّرا للتّراخي في الحذر والحيطة المطلوبين سواء في المرحلة الحالية أو أثناء فترات التّلقيح وحتّى بعدها. ومن جهة أخرى فإن التلقيح يدخل بصفة عامة في الأسباب المشروعة التي لا يجوز التشكيك في جدواها ومصداقيتها، بل يجب إرجاع ما يُروج حولها إلى أهل الاختصاص وقد قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83].
  • وفي الختام؛ التّذكير بأنّ الدّعاء من أعظم أسباب رفع البلاء وتفريج الكرب. فالله سبحانه وتعالى قريب لا نحتاج إلى قطع المسافات إليه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ اُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ…)[10]. فلنغتنم أوقات الاستجابة لنتضرّع إليه ليكشف عنّا ما نحن فيه من كَرب؛ ونحن في هذا الاضطرار لا حول لنا ولا قوّة إلاّ أن نُسلم الأمر لله ونتوب إليه ونذلّ ونخشع بين يديه فهو سبحانه القائل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}[11]. وبعد ذلك حاشاه أن يردّنا خائبين؛ فقد قال صلّى الله عليه وسلّم:«إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»[12].

نسأل الله تعالى أن ينبّهنا إلى حالنا وأن يرزقنا جميعا العزم على الجدّ في مواجهة هذا البلاء كلّ من موقعه وعلى قدر مسؤوليته فـ {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[13].

د. أوس رمال

نائب رئيس حركة التّوحيد والإصلاح

هوامش:

  • [1]ميثاق حركة التّوحيد والإصلاح: صفحة 47.
  • [2]ميثاق حركة التّوحيد والإصلاح؛ صفحة 54.
  • [3]ميثاق الحركة؛ صفحة 54.
  • [4]سورة القصص 77
  • [5]سورة البقرة 205
  • [6]سورة هود 117
  • [7]سورة الأَعراف 170
  • [8]سورة البقرة 114
  • [9]سورة الذاريات 55
  • [10]سورة البقرة 186
  • [11]سورة النمل 62
  • [12]سنن أبي داود. الوتر. عَنْ سَلْمَانَ.
  • [13]سورة الرعد 11

-*-*-*-*-*-*-

اطلع على رسائل الإصلاح السابقة:

فلولي يكتب: الصحراء المغربية في مواقف حركة التوحيد والإصلاح

التواج يكتب: النبي الإنسان صلى الله عليه وسلم

شيخي يكتب: كي لا نخطئ السبيل لمقاومة الانعزالية والتطرف

الموس يكتب: فاجعة مقتل الطفل عدنان.. الدروس والعبر

باخوش يكتب: الدخول المدرسي في زمن كورونا  ورهانات التطوير والتجويد
شيخي والموس يكتبان: استمرار رسالة المسجد في ظل جائحة كورونا

ابراهمي يكتب: على هامش التعاطي الإعلامي مع قضية “فقيه ملوسة”

 

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى