ذ يتيم يكتب: محمد الأمين بوخبزة.. رجل معاصر من زمن السلف الصالح

ليس ما أقوله من باب المبالغة أو المدح العاطفي الذي يميل إليه الناس في العادة حين يفقدون عزيزا، أو سيرا فقط على ما ورد في الأثر : اذكروا موتاكم بخير . ولعل هذه الحكمة يراد بها أن نتغافل عن النواقص ونذكر فقط المحاسن .. لكنه والله يشهد لا أتذكر منه إلا الفضل والخير والعطاء والوفاء …والمحاسن !!

أول فرصة أتيحت لي للتعرف عليه كانت سنة 1975 حين التحقنا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية؛ شعبة الفلسفة.
طالب في الفلسفة بلباسه التقليدي ( الجلباب )!!! في زمن سطوة اليسار المتطرف على الجامعة، لم يكن ينافسه في الغالب الأعم في أصالته إلا طالبة منقبة وحيدة في الكلية بالنقاب المغربي ( النكاب) .. وكأن ذلك من العجائب في زمن كانت التقليعات السائدة؛ هي شعر مسدول على طريقة الهيبي ولباس معاصر لدى الطالبات .. في زمن لم ينتشر ” الحجاب ” بتقليعاته الجديدة والمختلفة .

كان ارتداء الحجاب يعتبر أمرا جريئا آنداك .. وكانت الطالبات المحجبات معدودات على رؤوس الأصابع، لا أتذكر منهن إلا سيدة ترتدي جلبابا مغربيا سابقا بالنقاب المغربي ( النكاب ). كان الأمين بوخبزة من بين أنشط الفعاليات التي انتظمت في صفوف ” التنظيم ” هكذا كان يعرف قبل أن يعرف باسم الشبيبة الإسلامية، وهي التسمية التي ستأتي لاحقا لأسباب لا حاجة للتفصيل فيها.

وكان من الفعاليات الطلابية التي أسهمت في تطوير العمل الطلابي في الجامعة، وكانت جامعة الرباط في منتصف السبعينات مجالا لتأطير عدد من الشباب الملتحق من مختلف المدن. وسيكون لهؤلاء الطلبة دور في انتشار امتداد العمل الإسلامي وخاصة مكون الشبيبة الإسلامية علما أن هذه التسمية قد ظهرت لاحقا.

الدكتور الأمين بوخبزة الحاصل على الدكتوراة من القاهرة، لم ينتظر الحركة الإسلامية كي يطور تكوينه وثقافته الإسلامية خاصة، وهو ينتمي لأسرة علمية وعمه محمد بوخبزة هو عالمُ تطوان وخطيب منابرها، وشيخ المحدِّثين فيها والأغزر إنتاجا بين وُعّاظها؛ الوسطي المعتدل والمُنافح عن الدِّين والحقوق، والجامِع بين الشّرع وفقه الواقع وأثَر حركة الغيب في الحياة، والنّاقد لأخطاء الدولة بأدب واعتدال، والثابت على المواقف والمبادئ مُذ شاع ذِكره وانتشر تأثيره بين العامّة ونخبة الناس. … وهذا الوصف وجدته أدى بعض من عرف بشخصيته

وتبعا لذلك، فتكوينه الديني لا يرجع فقط لانخراطه في صفوف الحركة الإسلامية، بل هو تكوين موروث من وسطه العائلي، ويكمن فضل هذه الأخيرة في الانتقال من انتماء ديني إسلامي وجد نفسه فيه منذ نعومة أظافره، ولكن في إعطائه بعدا رساليا ونضاليا في الارتباط بما كان سائدا من ” نظرية ” في العمل تقوم على ” التميز والمفاصلة” والتربص لبناء تنظيم عضوي حركي يكون بديلا لـ ” المجتمع الجاهلي ” حسب بعض المصادر الفكرية المرجعية آنذاك ومنها كتاب ” معالم في الطريق ” للسيد قطب

سيقود القدر هذا الفتي التطواني المنحذر من أسرة عميقة أن يحد نفسه فاعلا دون أن يقصد، ومسهما في إحدى المحطات التاريخية المفصليدية التي ستقوظ إلى القطيعة مع الشبيبة الإسلامية تنظيما وفكرا، خاصة حين استفحلت التناقضات داخل الشبيبة الإسلامية واستفخل الخلاف مع قيادتها في الخارج.

ولم تكن تلك المحطة سوى خروجة للجزيرة الخضراء لنقل تقرير عن الوضع الداخلي، وتناقضاته المستفحلة للقيادة بالخارج حيث ستكون روايته لما دار في تلك المكالمة النقطة التي أفاضت الكأس، وحسمت التردد عن الجميع بأن مواصلة العمل في إطار الشبيبة الإسلامية؛ أصبح غير ممكن تضاف لذلك معطيات أخرى ليس الوقت وقت التفصيل فيها. ويعلم الله عدد المرات التي كان الدكتور الأمين بوخبزة مضطرا لروايتها كي تحسم معظم القيادات الداخلية أن العمل أصبح مستحيلا، وأنه أن الأوان للقطع مع الشبيبة، وتأسيس تنظيم جديد سيسمى حينها بالجماعة الإسلامية، ثم حركة الإصلاح والتجديد ثم التوحيد والإصلاح، ثم دخول العمل السياسي من بوابة حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية ( العدالة والتنمية لاحقا ) ..

سيتقدم الأمين بوخبزة للانتخابات التشريعية في دائرة تطوان ويفوز بمقعد نيابي لعدة ولايات. وكان من بين مجموعة النواب التسعة المؤسسن للمارسة البرلمانية في حزب العدالة والتنمية في نسخته الجديدة؛ فكان مدرسة في العمل البرلماني الملتزم وفي التواصل مع المواطنين. وكل ذلك لم يمنع الدكتور الأمين بوخبزة بأن يسهم إسهاما ملموسا في العمل الاجتماعي والخيري والإحساني بتطوان، فضلا عن الإسهام مع عدد من الفعاليات في تأسيس صرح حقل تعليمي كبير .

وخلال زيارتي منذ سنة أو يزيد لتطوان أبى الأخ الأمين بوخبزة إلا أن يستضيفني وأهلي في بيته العامر، وأصر على ذلك إصرارا كبيرا ..وطاف بي هو الأخ احمد بوخبزة في مكتبه عمه العامرة، كما طاف بي في إحدى المؤسسات التربوية النموذجية التي يرجع له الفضل مع مجموعة من الفاعلين في بنائها .. لا يمكن أن تذكر الأمين بوخبزة إلا يحضرك صوته الشجي وهو يتلو القرآن أو مرددا بعض الأناشيد.

وكانت من الأيام الجميلة خلال سنة 1984 حين شنت السلطات الأمنية حملة اعتقالات واسعة نتيجة توزيع منشورات وكتابة شعارات معادية للنظام في الأماكن العام على قيادات التنظيم الجديد ” الجماعة الإسلامية ” الذي كنت انتخبت أول رئيس له سنة 1981.. كنت قد نجوت من الاعتقال وترددت بين مدينتي الرباط وفاس مقيما عند بعض الطلبة. وكان الدكتور الأمين بوخبزة معي خلال هذه المرحلة، يتحفنا  من حين لآخر  بوصلات إرشادية بصوته العذب وادائه الجميل.

ومؤخرا وعند اشتداد المرض عليه، يسر الله لي بصحبة كل من الإخوة الأفاضل : الدكتور سعد الدين العثماني، الأخ عيسى مكيكي، .الأخ نزار خيرون زيارة الدكتور محمد الأمين بوخبزة قبل يومين من وفاته في إحدى عيادات بمدينة تطوان بعد تدهور حالته الصحية.. فرح الدكتور الأمين بوخبزة بهذه الزيارة فرحا شديدا . وقال ما مفاده أن أمنيته كانت أن يرى مثل هؤلاء الزوار قبل أن يتوفاه الله .

وبعد الدعاء له بالشفاء العاجل، لم يفت الأخ الأمين بأن يؤكد ويوصي بمواصلة العمل من أجل الإصلاح، فاللهم ارحمه واغفر له واعف عنه وعافه واغسله بماء وثلج وبرد زنقه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى