تأملات في سورة الفاتحة – نورالدين قربال

افتتح القرآن الكريم بالفاتحة، فهي أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني لأن المصلي يثني بها أي يعيدها في كل ركعة من صلاته. وهي خاصة بأمة الإسلام حيث ما كانت وارتحلت، وتفتتح ببسم الله ابتداء وتعظيما وسموا وسمة وتبركا وتيمنا. والله اسم علم خاص به سبحانه. فهو المستحق للعبادة، ويفزع إليه عند الشدائد. والرحمان الرحيم أي ذو الرحمة، يطمع إليه الراغبون. وهي إنعام وتفضل من الله تعالى على عباده. والرحمان عام وبها يرزق الله تعالى كل المخلوقات. والرحيم خاص بالعفو على المومنين يوم القيامة. وتطلق رحيم على غير الله، أما الرحمان فلا يدعى غير الله بها.

“الحمد لله رب العالمين” تفيد أنه هو تعالى المستحق للعبادة واللام للاستحقاق، والحمد هو الشكر والثناء لكن الحمد أعم. ورب العالمين مالك والعالمين جمع عالم بفتح اللام، ويرمز إلى السمو والعلم والعلامة. وربطوا الرب بمفهومي التربية والإصلاح. وهذا مهم في مجالات الإصلاح لأنه يحدد المرجعية قبل الخوض في البناء الحضاري بكل امتداداته العمودية والأفقية.

وكلمة ملك في “ملك يوم الدين” تفيد القدرة لذلك فإن كل ملك فهو مالك وليس كل مالك ملكا. والدين هو الطاعة. ومن تم كانت العبادة لله والاستعانة به “إياك نعبد وإياك نستعين” أي التوحيد والطاعة والخضوع والتذلل والمعونة على العبادة. وتناغم هذا الاعتقاد الرباني مع الدعاء بالهداية للصراط المستقيم “اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين”.

لكن كيف يطلبون الهداية وهم مهتدون؟ يطمعون في مزيد من الهداية والرشد، والتثبيت لأن الغاية هو الصراط المستقيم أي الجنة ورضى الله والطريق الواضح الموصل لذلك. صراط الذين أنعمت عليهم بالهداية والتوفيق والاستقامة، غير المغضوب عليهم حيث توفر إرادة الانتقام من العصاة، والضالين عن الهدى حيث السقوط في الهلاك والغيبوبة.

وعندما نختم السورة نقول آمين. أي اللهم استمع واستجب يا الله. ومن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. كما ورد عن الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري.

خلاصة القول إن الفاتحة نور كخواتيم البقرة لم يؤتهما نبي قبل محمد عليه الصلاة والسلام. ولن تقرأ حرفا منها إلا أعطيته. كما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم. لذلك ورد في الحديث النبوي في صحيح مسلم من لم يقرأ بالفاتحة في الصلاة فهي خداج أي غير تمام. لكن أروع ما ورد في سورة الفاتحة عندما قسمت الصلاة بين الله وعبده ولعبده ما سأل. فيقول الله عز وجل عندما يقول عبده الحمد لله رب العالمين حمدني عبدي، الرحمان الرحيم أثنى علي عبدي، ملك يوم الدين مجدني عبدي، إياك نعبد وإياك نستعين هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل.

إنها قمة التجاوب بين العبد وربه، وكلما شعر المصلي بهذه المعاني يسل نفسه من العبث الوجودي إلى حقيقته وعمقه، ومن أهمها المعاني الكبرى التي تضمنت سورة الفاتحة نحو أسماء الله وصفاته، والألوهية والربوبية، والرحمة، والمعاد والعدل. لذلك قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين بأن الفاتحة تضمنت جميع معاني الكتب المنزلة، وأطلق عليها أمهات المطالب. ومن تم لابد أثناء الدخول في الصلاة أن يسل الإنسان نفسه من الدنيا كسل الشعرة من العجين ويكون غائبا حاضرا. خاصة وأن للإنسان قوتين قوة علمية نظرية وقوة عملية إرادية كما قال علماؤنا الأجلاء.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى