اللغة العربية أساس التنمية البشرية في وطنها (1) – د محمد الأوراغي

مقدمة

اللغة نسق رمزي وديوان ثقافي، واتخاذ اللغة في علاقتها بالتنمية موضوعاً للدراسة يُخرجنا من اللسانيات الوصفية التي تُركّز على النسق الرمزي وينقلنا إلى مجال اللسانيات الاجتماعية التي تُعنى بتبادل التأثير بين اللغة والمجتمع. ومن هذا المجال الواسع يهمنا حالياً أن نحدد بدقة دور اللغة العربية في التنمية البشرية .

ليس لنا بحكم التخصص أن نتكلم عن التنمية باصطلاحات علم الاقتصاد حيث تُربط التنمية في الميدان ربطا مباشرا باطراد النمو في إنتاجية العمل، وبتحقيق الزيادة بشكل دائب وسريع في مقدار المنتوج الإجمالي وفي تراكم الخيرات المادية الضروري لضمان رفاه العيش لكنه من حديث الاقتصاديين عن التنمية يعنينا تناولهم لعناصرها الضرورية، وخاصةً «قوة «العمل»، المعتبر عنصراً أساسياً، إذ يشمل مجموع القدرات التي يمتلكها الإنسانُ ويستخدمها في عملية إنتاج الخيرات المادية ويهمنا على الأخص قدرته على إغناء خبرته الإنتاجية ودورُ اللغة في كل ذلك.

وباختصار شديد إذا كان لعنصر الإنسان ضمن أركان التنمية، الدورُ في تطوير الإنتاج والزيادة في الخيرات فإن للغة الدور الحاسم في تطوير قدرات الناس على التمرُّس بالعمل، وعلى الرفع المستمر من كفاءاتهم، والإغناء المتجدد للخبرة التقنية، وتعميق المعرفة العلمية، وتوسيع الثقافة العملية. ولها الدور المركزي في وقاية النسيج الاجتماعي من التفكك، وفي تهذيب السلوك الفردي، وترسيخ القيم الجمالية والحضارية الرفيعة وخلق التوازنات النفسية، ونحو هذا من المجالات الكثيرة التي تتصل باللغة وبحملها الثقافي اتصالاً مباشراً.

اعتبار اللغة أساساً للتنمية بمعناها الواسع قد يجعل من المتكلم بها عنصراً ثانوياً، في حين يُعدُّ الإِنسانُ القاعدة المولّدَةَ لكل الموضوعات الحضارية المضافة إلى الموجودات الطبيعية. ويرتفعُ هذا التدافع بين اللغة والإنسان في احتلال قاعد إطلاق التنمية إذا صح أن الإنسان نفسَهُ يُقاسُ قَدْرُه بمستوى لسانه. ولا شك في أن الإنسان على لسانه محمول، إذ لا شيء يَمِيرُ عالم الناس من جاهلهم إن استجاروا بالصمت كما سبق أن قيل شعرا:

وإن هُوَ بالصمت استجارَ لسانُه           ففي الصمت ذو نقص سواء وفاضلُ

ولا تنحصر أدوار اللغة في ما ذُكر من علاقتها بالتنمية القطاعية، إذ مفعولها في مستوى العالم أظهرُ. فهي المقياس المعتمد لرسم «أوطان لغوية»؛ کوطن العربية ووطن الفرانكفونية، ونحوهما من العوالم اللغوية الأخرى. وليس من السهل الانتقال بين الأوطان اللغوية. فكل إنسان أسير لنسق من قواعد التعبير عن المعاني والصياغة القولية للمقاصد الكلامية.

واللغةُ لا تأسرُ أهلَها بنسق قواعدها فقط، بل تُقيّدهم أيضاً بحملها الثقافي، إذ اللغات البشرية عبارة عن حدود ثقافية تمنع الاختلاط، بما تتغاير الحضاراتُ الإنسانية وينفصل بعضها عن بعض. وهي في ذلك كالحدود الجغرافية والسياسية التي تَعزِلُ الأوطان، وتُغلق على الأقوام. وتستخدم اللغة لتطويق أهلها قيدَيْن اثنين؛ أحدهما نسقي يتعلق بقواعد التفكير والتعبير، والآخر ثقافي يخص قيم التمدين والتطوير. ولا يستعصي على الإنسان كَسْرُ الطَّوْق اللغوي إذا كانت لغة القوم لا تُساعد على تنمية الملكات الذهنية، ولا تحفظ التوازنات النفسية، ولا تُساعد على تطوير القدرات العملية. وتكون اللغة كذلك إذا كان بنسقها الرمزي خلل انها الثقافي ضعف، وعندئذ يكون دورها في التنمية ضئيلاً، ويكون وضعُها وبديوانها حاملاً لأهلها على الاستقواء بلغة أخرى أنضج نسقاً وأغنى ثقافةً.

يتبع..

 

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى