التوبة مبدأ – الزهرة الكرش

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)[أخرجه الترمذي]. إن الطبيعة البشرية ليست طبيعة ملائكية معصومة من الوقوع في الزلل فالإنسان كائن تتجاذبه نوازع الخير والشر وتختلف حالاته بين الضعف والقوة لأنه لا يمتلك العصمة، فإن غلب ضعفه قوته وقع في المحظور وخالف أوامر الخالق. غير أن الحق سبحانه وتعالى فتح له بابا عظيما يستطيع من خلاله أن يغادر سجن الذنوب والمعاصي ويستنشق عبق الأوبة والحرية، إنه باب التوبة.

‌التوبة : ” مأخوذة من «تَوَبَ» أي رجع، يقال تاب وأناب إذا رجع عن ذنبه.  فالتوبة هي رحلة رجوع وعودة، عودة إلى الصفاء والنقاء بعد كدر. إنها رحلة بحث عن تلك النفس النقية الطاهرة التي كانت تسكن إلى جسدها في تناغم قبل أن تغترب عنه. هي هروب من ضعف تسلل ليسكن بين الضلوع دون استئذان. هي هروب من ظلمة جثمت على القلب حتى ما عادت الدماء تغمره إلى نور يبلغ عنان السماء فيعيد للروح وهجها. هي سقيا تنزل بردا وسلاما بعد شدة عطش. هي عودة إلى الفطرة السليمة التي تجعل المؤمن يستحيي أن يراه ربه حيث نهاه. إنها الفطرة التي توجهه إلى إعادة الأمور إلى نصابها وتحويل المسار للوجهة الصحيحة ليحدث الإعجاز والمعجزة، تحول شامل في التفكير والتدبير والعمل وفرار إلى الله من ضعف يهوي بصاحبه في مدارك الظلمات، تحول تتغير معه الضمائر والمصاير وتتبدل السيئة حسنة  ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) [70 الفرقان].

التوبة تحول يغير مجرى الأحداث والأعمال والجزاء في لحظة قصيرة من الزمن، لحظة عودة الإنسان لإنسانيته وإعلانه إفلاس سطوة الشهوة أمام الإيمان. التوبة هي لحظة تحرر حقيقية ولحظة إقلاع حقيقي إلى معارج السماوات. إنها عرس المؤمن الذي يعلن به بداية حياة جديدة ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222] حياة ملؤها وشعارها الحب، حب يطهر صاحبه مما فات ويخرجه من يأسه ويمنحه أملا جديدا يمده بالقوة والطاقة لإعادة البناء، بنائه الذاتي على قواعد سليمة فتتنزل الرحمات الإلهية وتطيب النفس وتتداوى جراحها وتتخلص من قنوطها فتنطلق في رحلة جديدة من التصالح والتسامح والاطمئنان (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] 

 التوبة نعمة إلهية عظيمة ومعجزة ربانية مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. التوبة “مبدأ”، مبدأ أساسي من مبادئ التغيير البنّاء. مبدأ يعيش به المؤمن ويتعلم منه قواعد النجاح في الحياة. فمنه يتعلم تسديد الخطى والسير على نهج سليم يضمن له الوصول. فالتائبون يحصلون السعادة بعد هذا  التحول المعجز ويتذوقون لذة القرب من الله بعد طول بعاد ويتعلمون القواعد الذهبية التي تحول التوبة من لحظة تغيير عادية إلى قاعدة حياتية، فكل تحول او تغيير في حياة المسلم يحتاج توبة أو يحتاج أن ينبني على مبدإ التوبة الذي يمكنه من التحلل من وضع حالي قائم بعيد عن الفطرة ويعود به  إلى الوضع السليم، إلى حيث الفطرة السوية و الاستقامة في الرأي والعمل.

ولمبدأ التوبة قواعد:

1) قاعدة المبادرة وعدم التسويف فمن أراد بلوغ القمة لا ينتظر كثيرا على السفح إنما يشمر ويتوكل ويصعد، ومن أراد الجنة لا يتردد في إعلان التوبة ولا يترك الباب مفتوحا لوسوسة تقنطه من رحمة الله. فتتحول “بادِر” في حياته إلى قاعدة ومفتاح مهم من مفاتيح النجاح.

2) قاعدة الإصرار( وخير الخطائين التوابون) قاعدة تبث فيه روح التحدي وعدم الاستسلام للفشل فبتكرار المحاولة يتحقق المراد ويحصل التميز، “خير الخطائين” فليس كل الفاشلين سواء، فالتميز هو في طريقة التعامل مع الفشل وتحويله إلى نقطة قوة تحدث تغييرا كبيرا في حياة صاحبه فيصبح “توّابا” بالتعبير القرآني، أي كثير التوبة والرجوع إلى الله وليس مستكينا قانطا مكتئبا غارقا في ظلمات معصيته. فالإصرار مع الصبر هو القاعدة الذهبية للتحرر وبلوغ الهدف.

3) قاعدة التشبت بالأمل، فالأمل ثقة لا حدود لها في ربِّ العالمين وحسن ظن به سبحانه. فمن فقد الثقة بربه والثقة بنفسه فقد أمله في الحياة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: يَقُولُ اللهُ: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)[رواه البخاري ومسلم]. فحسن الظن بالله والثقة فيه قوة دافعة لإحسان العمل وحث الخطى لبلوغ المبتغى (شبر..ذراع..باع..هرولة). الأمل سر من أسرار الاستمرار وعدم التوقف والتفكير بإيجابية والاستبشار بغد أفضل. إن الله سبحانه وتعالى يعيد إحياءنا بالأمل (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) فرحمته وسعت كل شئ فكيف لا تسع عبدا ضعيفا غالبته معارك الحياة.

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى