الإدريسي يكتب: في قِيمَة الحِوَار – 15 –

من خِلال تَتبعٍ حثيثٍ لقيمَة الحوار في القُرآن الكريم، ورصدٍ لسياقَاتها واستعمَالاتها، ونمَاذجها وأمثِلتها، وشُروطها وضوابطها، وآثارها ونتائجِها، خَلصت إلى أنَّ القرآن المَجيد يتضمن نظَرية في الحِوار مُكتملة الأركان وتامَة المعالم، وهذا لا يعني أن الحِوار في القُرآن الكريم مطلوب لذَاته، وإنما الغَاية منه هو قُدرة النَّاس  على تدبير الاختِلاف، وتيسير عمَلية التواصل وتحقيق التّعارف، والوصول إلى المُشترك بين المتحاورين، الأمر الذي يؤسس للتفاهم والتعاون والتّعايش، بدَل الإقصاء والصراع، والتهميش والنزاع.

والحوارُ بهذا المَعنى القُرآني وهذا المقصد البَيَاني والأًفق الإنساني، قد شغل مسَاحات واسعة من آي الذكر الحكيم، من قبيل مُحاورة الله تعالى للملائكة، ومحاورة الله تعالى لإبليس، ومحاورة الله للأنبياء، ومحاورة الأنبياء لأقوامهم، بالإضافة إلى بعض الحوارات الواردة في القصص القرآني من مثيل حَوار أهل الكهف، أو حوار صاحبي الجنتين، وسواء أتعلق الأمر بالحِوار  الداخلي (إبراهيم/عزيز عليهما السلام) أو  بالحوار الخارجي، كل ذلك من أجل أن  يكتشف الإنسان ذَاته، وحقيقة وجوده، ورسالته  في  الكون، لأن  المدخل الأسلم  لذلك كله هو تبني ثقافة الحِوار البناء، الذي سيَحفظ الإنسانية عُموما من  مظاهر الإكراه  والعنف والتعصب والحروب والاقصاء، وما سنحاول استجلاءه من صميم هذه الغاية  النبيلة.

والحوار مشتق من مادة “ح ور” والتي تفيد دلالات كثيرة، فالمحاورة تعني المجاوبة، والتحاور يفيد التجاوب. ويقال: كلمته فما أحار إلى جوابا، والحَوْرُ: الرجوع عن الشيء وإِلى الشيء، يقال حارَ إِلى الشيء وعنه، رجع عنه وإِليه.

أما في القُرآن المجيد فلم يرد لفظ “الحوار” هكذا، وإنما ورد الفعل “حاور” والمصدر “التحاور” ثلاث مرات، وذلك في الآيات الآتية: يقول الله تعالى: ﴿وَكَانَ لَهُ ثمرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾ سورة الكهف، الآية:34، وقول سبحانه تعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾ سورة الكهف، الآية:36، ويقول عز من قائل: ﴿قدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى الله وَالله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ سورة المجادلة، الآية الأولى.

وهَذا لا يعني أن قِيمة الحوار في القرآن ترتبط بهذه اللفظة فقط، وإنما ترتبط بمفاهيم أخرى كالجدال والجدل، والنظر والقول، هذا “القول” جعله الأستاذ المقرئ أبو زيد الإدريسي عنصرا مهما على “مؤشر الحوارية” من خلال التساؤلات الآتية: هل القرآن الكريم ذو طبيعة حوارية، أم هو مجرد بنية تقوم على التبليغ التلقيني المتعالي؟ أم هو نص ذو طبيعة إقصائية مجافية للطبيعة التشاركية التي يعكسها الحوار؟ (القرآن والعقل مدخل معرفي ونماذج تطبيقية)، فقد تكررت مادة (ق و ل) 1722مرة، وهذا رقم عظيم…

ويُمكن أن  نعرف  الحوار في القرآن  بأنه: نوع  من أنواع  الحَديث بين  طرفين  أو  أكثير  يكون  في جو هادئ وقصد  هادف، ولنا  أن نتأمل آية  المجادلة ، كيف  أن  الرسول صلى  الله  عليه وسلم  نقل  خولة  بنت  ثعلبة تلك المرأة  المشتكية، من حال  الانفعال والتّوتر والجِدال ﴿قدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي ..﴾، إلى جَوّ من السكينة والهُدوء والإنْصَات والحِوار﴿ وَالله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ لأن منهج الحوار في القرآن المجيد، ينطلق أولا من مبدأ  تقبل  الآخر من أجل التوافق معه  في طَرح أفكاره ومشكلاته ، فينجم عن ذلك جو نّفسيّ وأرضيّة ملائمة بين اطْراف حوار حول  كل  القَضايا، في تجنب وابتعاد عن جوّ الانفعاليّة والتوتر والجَدل العقيم.

والقرآن  الكريم  ميّز  بين  الجدل المذموم والجدل المحمود، لأنهما على  طرفي نقيض، فنجد آيات  تدعو  إلى  الاستناد إلى الجدال بالتي  أحسن ، وآيات  أخرى تدعو إلى  تجنب  الجدال المرَضي، لأن  الجدل  آلية  من آليات الإقناع بشرط أن  يكون  بالتي هي أحسن، يقول سبحانه: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ سورة النحل، الآية: 125، ويقول سبحانه وتعالى:﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ سورة العنكبوت ،الآية: 46.

وقد يتحول  إلى آلية  من آليات  القَمع  ومُصادرة  الرأي الآخر، لأنه  يتِّبع  الهوى ولا  يستند  إلى  الحُجة والبُرهان، يقول  تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ  لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ سورة غافر، الآية: 56-57، ويقول تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾، سورة الأنعام الآية :121.

والنماذج التي يعرضها القرآن المجيد للاهتداء والإتساء في المنهجية الحوارية، تمثل أرقى ما يمكن أن تصل إليه البشرية في تدبير الاختلاف والحرص على تمثل دواعي الحوار في أبعاده الوظيفية والتواصلية والتفاهمية، فهو يستند إلى مجموعة من الضوابط الذاتية والشروط الموضوعية التي تضمن للحوار مفعوليته، من قبيل تقبل الآخر، والإنصات وعدم المقاطعة، والاعتماد على الدّليل القاطع والسّلطان السّاطع، بالإضافة إلى حُسن القول، والقدرة على الإنصَاف والعدل والموضوعية.

 إن المنهج الحواري القرآني ينطلق من مقدمة أساسية، وهي أن الاختلاف بين البشر فطرة خِلقية وضرورة اجتماعية، ودائرته واسعة جدا، وهذا يقتضي الحرية في قناعتهم الفكرية واختياراتهم المَرجعية، بعيدا عن أي إكراه أو وصاية، وإنما الحوار وسيلة لاكتشاف نقاط التلاقي وتمتينها، والتعرف على مواطن الخِلاف وتجاوزها، مما يولد لدى المتحاورين أفكارا جديدا تكون سببا في التفاهم والتعاون، دون أن يتنازل أحدهم عن مبادئه ومُثله ومرجعيته، ومثال ذلك حوار موسى عليه السلام مع فرعون، يقول تعالى في سورة الشعراء الآيات 23-28: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قــَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾.

فَتَأمَّل؟؟

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى