الإدريسي يكتب: في قيمة الجمال -13-

تذوُّق الجمَال والإحسَاس به، مُعطى وجودي مركوز في فِطرة الإنسان، ولذلك كان الجمال أحد أسباب الحُب أو المَحبة الثلاثة: العظمة، والإحسان والجمال، وبين هذه الأسباب تكامل وتفاعل في التكوين الوِجداني والتشكيل الذّهني والنفسي للإنسَان باختلاف الثقافات وتنوع الحَضارات، والفلاسفة يعتقدون أنّ هناك ثلاث قيم أساسية توجّه نشاط الإنسان هي: الحقّ والخير والجمَال، فالجمال عندهم أحد هذه القيم الكبرى الموجهة لنشاط الإنسان.

 والقُرآن الكريم إذ يعرض هذه القِيمة في سياقات مختلفة ومتنوعة، فإنه يحاول التّصدي للكثير من التّشويه والمَسخ التي تعرضت لها قيمة الجمال نفسها، في ضوء المتغيرات التي عرفتها البشرية حيث التركيز على الجوانب المادية والتكنولوجية التي أثرت بشكل سلبي على كينونة الإنسان وذائقته الجمَالية.

والإنسَان المُعاصر اليَوم في حيرة وتِيه، بسبب الغلو والتّطرف في النزعة المَادية، أو الإغراق في الجَوانب الرُّوحية، التي أدت إلى انحسَار الذوق الجمَالي والقيم الجمَالية، سواء تعلق الأمر بالجَمال المادي المحسُوس، أو بجمال الرّوح والمعنى، جمال الظَّاهر وجمَال الباطن، الجمال الجَلي والجمال الخفِي.

والمُتدبر للقرآن المجيد عمُوما، وللقَصَص القُرآني على وجه الخُصوص سيجد العَديد من القضَايا والأبعَاد المرتبطة بالقيم الجمَالية والتربية الجماليّة، ولنا أن نتتبع واقع العَرب قبل نزول القرآن وحالهم بعد نزوله، وماهي التحولات الجمالية التي أحدثها القرآن في الحضارة العربية الإسلامية في ظرف وجيز، وكيف أسهمت هذه القيمة المَركزية في صيَاغة الشّخصية الإسلامية، والثّقافة الإسلامية والعُمران الحضاري، بل وتأثيرها على الحَضارة الإنسَانية.

والجَمال: مصدَر الجميل، والفعل جَمُل، والجمال: هو الحُسن الكثير، وهو ضد القُبح، وقد وردت لفظة الجمَال في القرآن الكريم مرات عديدة، في سيَاقات متنوعة منها قوله تعالى:﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ سورةالنحل:الآية6،وقوله تعالى:﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ  أمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ﴾ سورة يوسف الآية 18، وفي السورة نفسها:﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا﴾ الآية : 83 وقال  تعالى  في  سورة  الحجر الآية85:﴿وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾، وقوله تعالى في سورة الأحزاب: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ الآية  28،وفي  سورة  نفسها:  ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ الآية  49. ويقول تعالى في سورة المعارج، الآية الخامسة: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا﴾، ويقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ سورة المزمل، الآية: 10.

قيمة الجمَال في هذه الآيات يدور معناها، على الحُسن، في الخَلق والخُلق، وهي صفة تُلحظ في الأشياء، وتبعث في النفس رضَا وسُرورا وبهجة وحبورا، والملاحظة أنها دائما جاءت في سياق مدْح الموصوف بها، بما هي خِصلة أخلاقية وسُلوك إنساني، يجمع بين جمال الظاهر وجمال الباطن، أو بماهي نعمة دنيوية مادية ومعنوية، وقد وردت بعض المصطلحات المرتبطة بقيمة الجمال في القرآن الكريم، منها مثلا: الحُسن/ التّسوية/ النضرة/ الخَير/ الزينة/المتَاع/الاعجَاب/البَهجة/المسَّرة/اللذة…

إن كثرة هذه الاستشهَادات في القُرآن الكريم ، وفي سياقات مختلفَة  تؤكد أن الجمَال عنصر أساسي في حَياة الإنسان، بل هو وسيلته للتعرف على الله تعالى و جماله وجلاله وكماله، كل ذلك من أجل تحرير قيمة الجمال من كل غُموض أو التباس أو انحراف أو تشويه، وصيانتها من الاقتصَار على جانب واحد من جوانب الجمال، كالتوقف عند الشكل أو المظهر دون  النفاذ  إلى المخبر والجوهر ، والقدرة على تذوق الأبعاد الجمالية في كل تجلياتها، ولا شك أن الحَديث النبوي  الشريف واضح  في هذا المَجال، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ». ، وفي حديث آخر رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ رَجُلاً جَمِيلاً فَقَـالَ: يَا رَسُـولَ اللَّهِ، إِنِّي رَجُلٌ حُبِّبَ إِلَيَّ الْجَمَالُ وَأعْطِيتُ مِنْهُ مَا تَرَى حَتَّى مَا أحِبُّ أَنْ يَفُوقَنِي أَحَدٌ -إِمَّا قَالَ: بِشِرَاكِ نَعْلِي، وَإِمَّا قَالَ: بِشِسْعِ نَعْلِي- أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَلِكَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ بَطِرَ الْحَقَّ وَغَمَطَ النَّاسَ» (أخرجه أبو داود)، حيث أكد النبي عليه الصلاة والسلام على أن الإحساس بالجمَال شُعور فطري أصيل، وأنَّ تمثل حقائقه لا يتعارض مع توجيهات الإسلام، بل هو الإسلام عينه، فلا إسلام بلا جمَال.

 ولعلَّ ما ورد في الكثير من القَصَص القُرآني على سبيل الاعتبار والابصار والاستثمار، بالإضافة إلى مارد في بعض الآيات التي تدعو إلى التأمل في عالم الأنفس والآفاق، يبرز الملامح الرئيسة لأبعاد مفهوم الجمال، ويكشف عن الرؤية القرآنية لمكوناته، ولذلك دلالات بعيدة وإشارات واضحة وآفاق ومسَاحات جعلت أغلب المفسرين في تناولهم لهذه الآيات يبرزون الحضور القوي والمكثف لقيمة الجمال ودلالاتها وأبعادها الوجدانية والأخلاقية والعمرانية، ويدعون إلى استثمارها في الحياة الفردية والجماعية، وتنزيلها في الاختيارات الكبرى  للأمة ، وذلك الذي كان، وتاريخ  العُمران الإسلامي  شَاهد  ودليل.

ولنا أن نتأمل هذه الإنجاز العُمراني البديع والجميل الذي أدهشَ به سليمان عليه السلام الملكة بلقيس، وقدا كان سببا في إسلامها، يقول تعالى: ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.فلما قيل لها: ادخلي ساحة القصر (الصرح)، ظنته ماء غزيراً (لجة)، بركة منبسطة مستلقية في باحة القصر، فكشفت عن ساقيها؛ لئلا تبتل ثيابها، فأخبرها النبي سليمان عليه السلام أنّها ليست ماء، وإنّما هي ساحة قصر مملّس ومعَدّ من زجاج شفّاف يبدو للناظر وكأنّه لجّة، إنّه بلّور صافٍ صفاء الماء، إلى حدّ أنّه يخدع البصر، ويظنّ من يراه أنّه يقتحم بركة ماء غزيرة، لقد صُقل ذلك الزجاج، بشكل  مبدع  ومتقن.

إن القرآن الكريم ربط الجمال بمعيار الالتزام الأخلاقي، وبالتالي لا يمكن فهم معنى الجمال في المنظومة القرآنية إلا في استحضَار الأبعاد المادية والمعنوية، الحسية والسلوكية المؤطَّرة بالحُسن والابدَاع والاتقَان. ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ سورة البقرة الآية، 117. قال فيلسوف الإسلام الشاعر محمد إقبال رحمه الله في ديوانه:

بِنا لبِس العشقُ ثوبَ الجمَال               ففَاض على الكَون طِيبًا وحُسنَا

وفطرةُ بَنــــي آدَم في كُل                  حيٍّ روتهَا الخَلائق عنَّـــا

تعلمتِ الأمَمُ النَّاهِضـَـات                  من الشَّرق عِلمًا ودِينا وفَنًّا

رفعْنا الحجَاب عَن الكَائنات               فنحن الشَّمس والشمس مِنَّا

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى