ولا تفسدوا في الأرض

الفَساد في اللغة: قال الراغب الأصفهاني: (الفسادُ خُروج الشيءِ عن الاعتدالِ قليلًا كان الخروج عنه أو كثيرا، ويضاده الصلاح، ويُستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامةِ) انتهى.

والمعنى الاصطلاحي للفسادِ: يدور على ما ذكر في المعنى اللغوي من أنه ضد الصلاح، وأنه خروج الشيء عما كان عليه مِن الاعتدال والسلامة، والفساد والإفساد كما هو منكر فطرة فهو منكر شرعا، ومُحذر منه في جميع الشرائع.

لقد نهى الله جل وعلا في كتابه العزيز عن الفساد والإفساد، ووضح وسائل العلاج، وبين منهج الصلاح والسداد، قال سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَاد ﴾ [البقرة 205]، وقال جلَّ ذِكره:﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 116]، إلى غير ذلك من الآيات التي تنبه على خطورة الفساد والإفساد في الأرض، والعواقِب الوخيمة لأهله إن لم يَتناهوا عنه، ويأخذوا على يد الْمُفسد لتسلم سفينةُ المجتمع من الغرق.

وقد جاء في السنة النبوية بيان لهذا الخطر، وتحذير منه؛ فجاءت التوجيهات النبوية للتحذير أولًا، ثم العلاج ثانيا، قال رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (ما ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا في غَنَمٍ بأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ على الْمَالِ والشَّرَفِ لِدِينِهِ) رواه الترمذي وقال: (حسَنٌ صحيح).

ولقد بينت السنة النبوية الأسباب المؤدية إلى الفساد المالي والإداري لتُجتنب، وبينت أسبابَه، وسبل علاجه، ومما لا شك فيه أن العلاج النبوي للفساد وغيره أهم وسائل العلاج بعد العلاج بكتاب الله جل وعلا، ومعرفة بعض وسائل العلاج مما يُسهل على مَن وَقع في الفساد الرجوع عنه.

أولًا: اعتبار الكفاءة في الاختيار: قال عمر رضي الله عنه: (إني لأتَحرَّج أنْ أستعملَ الرَّجُلَ وأنا أجدُ أقوى منه) انتهى، ولَما عَزَل شُرحبيل بن حَسَنة وعيَّن بدلًا منه معاوية، قال له شُرحبيل: (أَعَن سُخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، إني لكما أُحب، ولكني أريد رجلًا أقوى من رجل) انتهى، وقال عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: (مَن استعملَ رَجُلًا لمودَّةٍ، أو لقرابةٍ، لا يستعملُهُ إلا لذلك؛ فقد خان اللهَ ورسولَه والمؤمنين) رواه ابنُ أبي الدنيا.

ثانيًا: التحذير من كسب المال مِن غير حلِّه، (ذكَرَ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟) رواه مسلم، ولَمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وكانوا بوادي القُرى، قُتل له غلامٌ يُقال له مِدْعَم، (قَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الجَنَّةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلاَّ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ النَّاسُ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ، أَوْ: شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ) رواه البخاري ومسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (فَرُدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمَخِيطَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَارًا وَنَارًا وَشَنَارًا) رواه الإمام أحمد وحسَّنه مُحقِّقو المسند.

فالمحافظة على المال العام من أوجب الواجبات وأعظم الطاعات، وخيانة ذلك من الفساد في الأرض، ومحاربة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وخيانة لولاة الأمور، وصاحبه مُتوعَّد بدخول النار، والعياذ بالله.

إقرأ أيضا: في اليوم الدولي لمكافحة الفساد: احفظوا حقوقكم، واضطلعوا بأدواركم، وقولوا لا للفساد

ثالثًا: التحذير من الرشوة،

رابعا: منع المسؤول من التجارة، لأن الناس سيحابونه لأجل مكانته، ولما ظهر الثراء على الحارث بن كعب، وقد كان مسؤولا في زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سأله عمر عن سبب ثرائه: فقال: خرجت بنفقة معي فاتجرتُ بها، فقال عمر: أما والله ما بعثناكم لتتجروا، وأخذ منه ما حصل عليه من رِبح، وقد كان رضي الله عنه يحصي ثروات ولاته قبل تعيينهم، خشية من استغلال المنصب الذي يشغله الوالي، فاعتاد عمر رضي الله عنه أن يُلزمهم عند توليتهم بتقديم تصريح بممتلكاتهم، فإذا زادُوا عليها من الكسب أخذ منهم شطر الزائد أو كلَّه.

خامسا: إنشاء ديوان للمراقبة والتفتيش، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول مَن أنشأ نظام التفتيش في الإسلام، وقد وضع على كل مسؤول عَيْنا لا يفارقه، وكان يندب وكيلا منه يجمع شكايات الناس، ويتولى التحقيق فيها بنفسه، وكان يجتمع بالولاة والعمال كل عام في موسم الحج، وعزم قبل استشهاده أن يذهب لكل إقليمٍ ويمكث عند الناس شهرين، لكي يستطيع أهل كل إقليم الوصول إلى الخليفة رضي الله عنه، وقد أنشأت حكومتنا وفقها الله هيئة باسم: هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، للعمل على حماية النزاهة ومكافحة الفساد.

إن الإسلام دين الصلاح والإصلاح، يدعو إلى الخير وينهى عن الشرّ والإفساد، والإفساد في الأرض شِيمة المجرِمين، وطبيعة المخربين، وعمل المفسدين، ففيه ضياع للأملاك، وضِيق في الأرزاق، وسقُوطٌ للأخلاق، يحول المجتمع إلى غابَة يأكل القوي فيه الضعيف، وينقض الكبير على الصغير، وينتَقم الغني منَ الفقير، فيزداد الغني غنى، ويزداد الفقير فقرا، ويَقوى القوي على قوته، ويضعف الضعيف على ضعفه!. والفساد داء ممتد لا تحده حدود، ولا تمنعه فواصِل، يطَال المجتمعات كلَّها مُتقدمها ومُتخلفها بدرجاتٍ مُتفاوِتة.

وشرائع السماء كلها نهت عن الفساد في الأرض ودعت الناس إلى عدم الانقياد لهم أو معاونتهم فإن من أعان المفسدين أو رضي بأفعالهم أو تستر عليهم فهو شريك لهم في الإثم، وقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال ﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2] وقال تعالى: ﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾ [الشعراء152] و قال تعالى: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ [الأعراف: 56].

هذه الآيات العظيمة، وغيرها مما يقارب خمسين آية في كتاب الله تعالى كلها تحذر من الفساد بجميع صوره وأشكاله وأنواعه والتحذير من الفساد جاء عاماً، للتحذير من كل صور الفساد، ولم يخصص نوعا من أنواع الفساد؛ حتى يبتعد المسلمون عن جميع الصور.

والإفساد في الأرض أمر يجب التحذير منه والتنبه له، لأنه أمر مخالف لدعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام الذين جاءوا بالإصلاح في الأرض، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله عز وجل.

وتتابعت رسل الله وأنبياؤه ينهَون عن الفساد في الأرض:

قال نبيّ الله صالح عليه السلام لقومه: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 74]

ونبي الله شعيب يقول لقومه: ﴿ وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [هود: 85].

ونبي الله موسى يخاطب أخاه نبي الله هارون قائلاً له: ﴿ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 142]، وقال مخاطبا آلَ فرعون، قال لهم: ﴿ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 81].

وصالحوا البشر يخاطبون قارون قائلين له: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77].

الإصلاح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى