مشروع القانون الإطار 17-51 في ميزان المصالح والمفاسد

انتقل نقاش القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين من مربع السياسة ودائرة النخبة المثقفة إلى مستوى النقاش العمومي؛ خصوصا بعد تمريره من قبل اللجنة البرلمانية المعنية به، وليس يخفى أن أي قانون لايمكن بأي حال من الأحوال أن يكون كله مصالح محضة، أو كله مفاسد محضة؛ طالما أنه جهد بشري، بل لابد أن تكون محاسنه مشوبة بعيوب وثغرات؛ قد تقل أو تكثر. 
وبلغة المصالح والمفاسد؛ فالقانون الإطار17-51 في حيثياته وتفاصيله اجتهاد وتقدير، لا يخلو من منافع متوسطة وبعيدة المدى، أعني على مستوى التنزيل وبُدوّ الثمار، وهذه-في تقديري مصالح جزئية صغيرة لايخلو منها قانون! وهو أيضا اختيارات كبرى وتوجهات استراتيجية في منظومة التربية والتكوين؛ مستوحاة من الرؤية الاستراتيجية؛ تحدد أفقه وترسم ملامحه: منها فرنسة لغة التدريس بالمرموز والواقع، أو إمكانية تدريس المواد بلغات اخرى بالواضح صياغة، والنظري تنزيلا!  وهذه مفسدة كبرى ستجهز على ثلاثين سنة من تعريب الاعدادي والتأهيلي، كان الأولى مضي القانون الإطار في اتجاه استكمال تعريب العالي، لا النكوص والرجوع القهقري؛ لو كان أنصار المشروع الاصلاحي واعين بحجم التحديات الحضارية. 
ولا يوهمنّنا المدافعون بما ورد في المادة 32؛ مما اعتبروه مكسبا للعربية؛ ونصه(إدراج وحدة دراسية تلقن باللغة العربية في المسالك المدرسية باللغات الأجنبية في التعليم العالي) فهذه دغدغة للعواطف بجعل العربية (تستجدي) مَنْفذا بالعالي بعدما ستقبر في الاعدادي والثانوي (إن هذا لشيء عجاب). ومن محاذيره التربص بالمجانية(المادة48) المحذوفة من الصيغة المتوافق عليها، الباقية ارهاصات وامكانيات العودة اليها كما توحي بذلك الرؤية العامة والفلسفة المؤطرة للقانون، وهذا يتطلب لزوما من المشرعين اليقظة والانتباه عند الاجرأة التنظيمية التنزيلية!

وبلغة التقصيد أقول بأن العلماء قسموا المصالح إلى ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات متممة ومكملة، وخادمة للضروريات، حائمة حولها لحفظها وصيانتها، وجريانها يكون في العبادات والعادات والمعاملات. وكل ضياع لضروري يلزم عنه ضياع وفقدان الحاجي والتحسيني، وضياع الحاجي أوالتحسيني أحيانا  لا يلزم عنه ضياع الضروري؛ باعتبار أهميته ولزوم المحافظة عليه. 
وقضايا الهوية؛ ومن مقوماتها ومرتكزاتها اللغة العربية-تعميما للتدريس بها وإشاعة لنفَسها- يُفترض أن تكون من الضروريات في مشاريع إصلاح منظومات التربية والتكوين بالبلدان الاسلامية- لأنها من التوجهات الاستراتيجية الكبرى ذات الدلالات الحضارية العميقة، يضاف إلى ذلك المجانية في دولة كالمغرب، وإلا ضاعت حقوق وحظوظ شرائح كبيرة من المجتمع تعوزها الامكانيات المادية لمواصلة التحصيل والتفوق. ومن حسنات القانون أن تراجع عن مادة الرسوم(وهي المادة48 المحذوفة).
وأما ماعُدّ من ايجابيات القانون مما ورد في باقي المواد فهو من قبيل الحاجيات أو التحسينيات المكملة المفروض فيها أن تكون حامية للضروريات، لا يضر ما قد يعتريها من نقص أو زيادة أو تنقيح. ومهما كثرت عدّاً وجودة فهي لا ترقى الى مرتبة الضروري بأي حال من الأحوال! 
ولذلك لايستقيم بمنطق التحليل العلمي الرصين المنصف، أن نقارن بين مكتسبات أو قل انجازات تحسينية او حاجية في احسن الاحوال؛ وبين فقدان ضروري من الضروريات.
فلا عبرة بالنوافل مهما كثرت؛ وهي حاجيات مكملة؛ إذا ضاعت الفرائض وهي ضروريات بانية مؤسسة.
أختم المقال بشيء من المجاز، لأقول :
القانون الإطار 17-51 حديقة بها بذور لأزهار وأشجار، ستكون وارفة الظلال، سارة للناظرين بشروط مناخية، وخبرة زراعية، وحماية بيئية خاصة، وفي أرضية المزرعة لُغْمان شديدا ًالانفجار، سريعا التفعيل(المادتان 2و31)، لاسبيل إلى رعاية الحديقة وتعهدها الا بالابقاء عليهما. أو قل إن شئت:
هو عبارة عن بيت بناه رجل، فأحسنه وأجمله حتى صار يسر الناظرين من المشترين، واخبرهم بعيب كبير في اساساته(المادة31) وثقوب صغيرة جدا في سقفه؛ أصر صاحبه على إبقائها لكلفة إصلاحها (المادة2 وتوابعها). فتسابقوا للشراء رغم ذلك طمعا في 98٪من البهاء والجمال. وقال بعضهم: لا يهم أنا مجرد تاجر ساستر العيب باقل كلفة وأبيع، وقال أصدقهم :أنا سأصارح المشترين؛ لكن سأقنعهم ب98٪من البهاء والرونق والجمال، واخبرهم بان (2٪)من عيوب الاساس وثقوب السطح سهلة المعالجة.
أخشى ما أخشاه وأرجو أن يكون تقديري فاسدا أن تهوي 2٪ ب98٪ فتتغول الفرنسية (اللغات بتعبير القانون، وإصرار تسويق المدافعين) بنصوص تنظيمية محكمة الصياغة، جاهزة التنفيذ، وتبقى 98٪ أو أكثرها كلاما هلاميا عائما. هذا إذا لم تحبك لها نصوص تنظيمية خادعة من قبل خريتي الشأن، خبراء الصنعة، مسلوبي الإرادة!
والله من وراء القصد.
   د. البشير القنديلي
-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-
مقالات الرأي المنشورة على موقع الإصلاح لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع الإصلاح.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى