في نقد ادعاءات “مذكرة من أجل المساواة في الإرث” في آية وحديث الوصية

مما نصت عليه مذكرة من أجل المساواة في الإرث[1] اعتبار صاحب الثروة هو صاحب الحق الأول في توزيعها، وأن الوصية الواجبة مقدمة على نظام الإرث، ويحق للمالك تقسيم تركته على ورثته وأهله بالوصية، واستدلوا على ذلك  بقوله تعالى: “كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَۖقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ 180 فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِۚنَّ اللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ”181 البقرة.

فبهذه الآية القطعية الدلالة، تكون الأمور واضحة بل أشد وضوحا، فصاحب الثروة الذي راكمها وأسسها وأنتجها ووفرها، هو صاحب الحق الأول في توزيعها بين المقربين منه، فهو الأجدر بذلك والأدرى، وأن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لا وصية لوارث” يعاني من مشاكل على مستوى السند،”[2]، وأن “الفقهاء قد زلت بهم الأقدام عندما نسخوا آية الوصية بحديث ضعيف…، بينما القرآن قطعي الثبوت، ولا يجوز بأي حال من الأحوال نسخ القطعي بالظني، والإلهي بالبشري.

إن المطلع البسيط على نصوص الشرع وقواعد الفقه وأصوله، يتجلى له تهافت الادعاء والاستدلال الذي استند إليه أصاحب المذكرة، وهو ما ستبينه الفقرات التالية:

1: آية الوصية ليست قطعية الدلالة:

من المعلوم عند علماء الفقه وأصوله أن القرآن الكريم كله قطعي الثبوت، لا شك في صحته، لاتِّصَافِهِ بالتواتر في النقل، لكن ليس كل آي القرآن الكريم قطعية الدلالة، فالقطعي الدلالة من النصوص هو ما ” دل على الحكم دلالة قطعية، بأن كان لا يحتمل غيره..، كدلالة لفظ النصف في قوله تعالى (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد ) .. وكدلالة قوله تعالى “حرمت علكم أمهاتكم وبناتكم” على تحريم الزواج بالأمهات، أما إذا دل على الحكم مع احتمال غيره بأن كان يدل على أكثر من معنى فإنه يكون ظني الدلالة سواء ترجع أحد المعاني بمرجح أو لا، كلف القروء في قوله تعالى “والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء” إذ لفظ القرء يحتمل الحيض والطهر بحسب الوضع اللغوي”[3]

ونص الوصية الذي بين أيدينا نص عام لاختلاف العلماء في تأويله والمقصود به، وهل يطاله النسخ أم التخصيص، وهو ما لا يتحقق في النص القطعي الدلالة، والعام عند الفقهاء ” قطعي الدلالة قبل التخصيص، فإذا دخله التخصيص نزل إلى مرتبة الظنية”، وعند الشافعية ” ظني قبل التخصيص وبعده، وعلى ذلك فإنهم يجيزون تخصيص العام بالدليل الظني”[4]

وهو ما يجعل النص الوصية ظني الدلالة يحتمل من المعاني ما يمَكِّنُ من الجمع بينه وبين الحديث النبوي “لا وصية لوارث”.

2: في حديث ” لا وصية لوارث”:

ادعت مذكرة “من أجل المساواة في الإرث” أن حديث لا وصية لوارث معلول وضعيف وموقوف على الصحابي، وليس بالحديث الصحيح الذي ينسخ آية المواريث، وردا على ذلك نقرر الحقائق التالية التي ترفع اللبس وتكشف الجهل بحقائق علم الحديث والفقه وأصوله، وتؤكد جهل المدعين وأميتهم العلمية بحقائق النصوص الشرعية وطرق التعامل معها.

أولا: الحديث الذي ادعى أصحاب المذكرة ضعفه هو حديث صحيح أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو يعلى…، ومن العلماء من جعله من السنة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [5] وهو أعلى درجة الصحة علم الحديث، وهو من الأحاديث التي تلقاها جمهور العلماء بالقبول، وهذا ما قرره الشوكاني بقوله ” إن محل الخلاف في أخبار الآحاد التي لم تجمع الأمة على العمل بها. أما ما أجمعوا عليه كقوله: “لا ميراث لقاتل” 2 و”لا وصية لوارث” 3 فيجوز تخصيص العموم به قطعًا، ويصير ذلك كالتخصيص بالمتواتر، لانعقاد الإجماع على حكمها ولا يضر عدم انعقاده على روايتها.”[6]

ثانيا: من العلماء من قال بأن نسخ حكم الآية إنما هو بالقرآن الكريم، والآية التي نسخت حكم الوصية هي آية المواريث من سورة النساء التي فصل الله تعالى فيها أنصبة الورثة، وفي هذا يقول الشافعي “الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ مَنْسُوخَةٌ بِآيِ الْمَوَارِيثِ وَأَنْ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ مِمَّا لَا أَعْرِفُ فيه عن أَحَدٍ مِمَّنْ لَقِيت خِلَافًا” [7] والحديث أقر ذلك وأكده .

ثالثا: من العلماء من أقر أن آية الوصية عامة لم تنسخ، بل خصصت بآية المواريث وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما بيناه في قول الشوكاني السابق ” أما ما أجمعوا عليه كقوله “لا يرث القاتل” و”لا وصية لوارث” فيجوز تخصيص العموم به قطعا، فيعمل بهما معا عملا بقاعدة الجمع أولى من الترجيح، فتصح الوصية لمن لا يرث، وللورثة الذين منعهم مانع من موانع الإرث، مثل الأب أو الابن أو القريب عموما غير المسلم، وفي هذا يقول الشافعي ” وَدَلَّ على أَنَّ الْوَصَايَا لِلْوَالِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَرِثُ بِكُلِّ حَالٍ إذَا كان في مَعْنًى غَيْرِ وَارِثٍ فَالْوَصِيَّةُ له جَائِزَةٌ وَمِنْ قِبَلِ أنها إنَّمَا بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ إذَا كان وَارِثًا فإذا لم يَكُنْ وَارِثًا فَلَيْسَ بِمُبْطِلٍ لِلْوَصِيَّةِ”[8]

3: في أن الإلهي مقدم على البشري:

وهو حق يراد به التلبيس على القارئ غير المطلع والمتمكن من علوم الشرع وحقائقه، فالوحي مقدم على اجتهادات البشر، وهي حقيقة لا نقاش فيها، لكن الادعاء بأن حديث رسول الله هو كلام بشر سقوط في نفي الرسالة والنبوة ــ بغير قصد ـــ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتصاف بأوصاف من قال الله فيهم “وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم” الأنبياء 3، و” ما هذا إلا بشر يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة” المؤمنون 24.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم بشر لكن يوحى إليه ” قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه” فصلت آية 6. زكاه الله تعالى وأكد بأنه لا ينقط عن الهوى، قال تعالى” وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى” النجم 3/4.

4: أن صاحب الثروة هو صاحب الحق الأول في توزيعها بين المقربين منه، فهو الأجدر بذلك والأدرى:

وفي هذا تطاول على صاحب الحق الأصيل، وادعاء عن جهل بأن الخالق جل جلاله ليس جديرا بتوزيع الثروة، ولا يدري مصلحة خلقه فيما أقره من أنصبة وحقوق تتعلق بالتركة، فصاحب الثروة هو الأدرى وهو الأجدر وصاحب الحق الأول والأخير.

لقد نسي هؤلاء أن صاحب الحق المطلق هو الخالق جل جلاله، الذي أقر في كتابه بوجوب التصرف في المال وفق إرادته، وفي الطرق التي شرعها كسبا وإنفاقا، يقول الله عز وجل ” وآتوهم من مال الذي آتاكم” النور 33.

فالمال مال الله والإنسان مستخلف فيه لقوله تعالى « آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ” الحديد 17.

لا يحق له التصرف فيه إلا فيما أراده الله ووفق مراده، فعَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”[9]

وسيسأل يوم القيامة عن كسبه ونفقته، يقول صلى الله عليه وسلم ” لاَ تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ.”[10]

فتصرف الانسان في ثروته مقيد بأحكام الشرع وتعاليمه، فهو حر التصرف في الأوجه المشروعة في حياته من نفقة ووقف وبيع وهبة.. لأبنائه أو باقي أفراد اهله أو أقاربه أو عموم الناس، لكن بعد وفاته فقد تكفل الخالق تعالى بالتوزيع بما يحقق المصلحة المشروعة، ويدفع التنازع، ويضمن تماسك مؤسسة الأسرة واستقرارها.

إن القراءة المتفحصة لادعاءات من أعد المذكرة يثبت تهافت مستنداتها وأدلتها التي ساقتها لإثبات اختياراتها، وهو ما سأثبته وأؤكده في باقي الحجج التي ساقتها في ادعاءاتها الأخرى، وفي مقدمتها التمييز بين لفظ الكتابة والوصية للقول بأن آية الوصية محمولة على الوجوب وآية المواريث محمولة على التراخي والندب.

د. محمد ابراهمي

عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح

 

***

[1] : لمذكرة من أجل المساواة في الإرث الصادرة عن تنسيقية المناصفة ، مارية شرف، أسماء الوديع وآخرون

[2] : المرجع نفسه، ً:10

[3] : د: نذير احمادوا، إمتاع أهل العقول بحقائق علم الأصول، ج: 1/ ص: 234.

[4] : بحوث في علم الأصول، ص: 23.

[5] : محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ج:1/ ص: 389.

[6] : المصدر نفسه، ج:1/ ص:389

[7] : الشافعي، الأم، ج:4/ ص:99.

[8] : المصدر نفسه، ج:4/ ص:99.

[9]: البخاري، الصحيح، باب من انتظر حتى تدفن، ج: 4/ص:85.

[10] : الترمذي، السنن، باب في القيامة، ج: 4/ ص: 190

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى