ذ محمد يتيم يكتب: المقاومة الشاهدة

بالمقاييس الأرضية أو بلغة السياسية و لغة الاستراتيجية والتكتيك، قد ينظر البعض للمقاومة الفلسطينية بأنها مقاومة عبثية، ولصواريخها بكونها صواريخ عبثية بلغة محمود عباس ، وأن موازين القوى لا يميل لمصلحتها ومصلحة شعوبها بلغة بعض المنظرين السياسيين.

وبصيغة آخرى، إن المقاومة الفلسطينية في هذا التصور هي المسؤول عما يصيب الشعب الفلسطيني من ابتلاء وأضرار ومحن . وتكلفتها من القتل والقصف والتنكيل والتهجير المقصود الهادف إلى دق إسفين بين المقاومة وحاضنتها الشعبية .

كان من الممكن تصديق ذلك لو كانت المقاومة فقط من فعل تنظيمات ثورية انتفضت على الاحتلال ، ولو لم تكن حالة يتباها الشعب الفلسطيني ويحتضنها. كان من الممكن تصديق هذا الهاجس وذلك الموقف المهزوز، لو لم تكن هناك سوابق من حركات المقاومة قدمت تضحيات تقترب أو تزيد عما يقدمه الشعب الفلسطيني اليوم في مواجهة العدوان الصهيوني.

كان من الممكن الاستسلام لهذه الروح الانهزامية لولا أن المقاومة قضية عقدية، ومبدئية في كل الثقافات ولدى كل الشعوب، وأحداث التاريخ القريب والبعيد شواهد دالة على أن المقاومة؛ تتولى مهمة تفعيل سنة التدافع مع الباطل والعدوان سواء تعلق الأمر بتاريخ الأمة الإسلامية أو غيرها من الأمم التي تعرضت للعدوان.

تاريخ الأمة يؤكد رسوخ المقاومة وثقافتها، وأنه لم تخل لحظة أو فترة من لحظاته من مقاومة وقيادات مقاومة ومنها على سبيل المثال لا الحصر؛ الملك الناصر أو المظفر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان بن المشهور بلقب صلاح الدين الأيوبي القائد المسلم. وتاريخها المعاصر أيضا حافل بحركات المقاومة منذ بدء الحملة الاستعمارية الأوروبية بعد إسقاط دولة الخلاقة في المشرق، وعلى إثر معركة إيسلي في المغرب ، حيث ستبرز حركات وثورات تحرر مقاومة وتحرير وطني على يد علماء مسلمين مخلصين، لمواجهة الاستعمار.

ومن ذلك مثلا ثورة عز الدين القسام والعلماء في فلسطين، وثورة عبد الكريم الخطابي ، وحركة المقاومة وجيش التحرير في المغرب ، و ثورة الأمير عبد القادر الجزائري والإمام ابن باديس والشيخ الإبراهيمي. في الجزائر، وفي تونس جهاد الخضر حسين والشيخ عبد العزيز الثعالبي، وفي السودان كفاح المهدي والثعالبي ، وفي الصومال نضال الشيخ الملا، وفي ليبيا ثورة عمر المختار، وفي العراق ثورة رشيد عالي الكيلاني والشيخ محمود شكري الآلوسي.، وفي اليمن حركة التحرر الوطني بزعامة الشيخ عبد الله الحكيمي والقائمة طويلة

المقاومة لدى أمم وشعوب أخرى

وتكشف تجارب أمم أخرى أن المقاومة وثقافتها رد فعل طبيعي في مواجهة الاستعمار والطغيان رغم عدم التكافؤ في موازين القوى : إذ لم يكن التفوق العسكري الساحق لجيوش المستعمرين في يوم من الأيام مانعا من مقاومة المحتل ، ولا أن تتغلب قوته وقهره على إرادة الشعوب التي تكافح من أجل التحرر حتى لو اتُهمت بـ”الإرهاب” ومن ذلك على سبيل المثال :

– المقاومة الفرنسية : إذ من المقارقات أن فرنسا الاستعمارية حين وجدت نفسها أمام تهديد وجودي في مواجهة ألمانيا النازية، لم تجد سوى اللجوء لخيار المقاومة في مواجهة الاحتلال الألماني ، وحكومة فيشي المتواطئة معه خلال الحرب العالمية الثانية ، حيث تكونت مجموعات صغيرة من رجال ونساء مسلحين أطلق عليها اسم المقاومة la résistance وانحرطت كافة طبقات المجتمع، من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والمحافظون بما فيهم الرهبان إلى اليهود،وت الليبراليين، والشيوعيين.

وقد اضطلعت هذه المقاومة بدور هام في تسهيل تقدم الحلفاء سريعًا عبر فرنسا عقب غزو نورماندي في 6 يونيو 1944، وغزو بروفنس الأقل شهرة بتاريخ 15 غشت ، وذلك بتوفير معلومات استخباراتية عسكرية بشأن الدفاعات الألمانية المعروفة بالجدار الأطلسي وعمليات انتشار الفيرماخت، وتشكيل المعركة
وخططت هذه المقاومة لاستهداف شبكة الكهرباء، ومرافق النقل، وشبكات الاتصالات ونسقت تلك الخطط ونفذتها . وكان ذلك أمرا ضروريا لفرنسا على الصعيدين السياسي والأخلاقي كما يرى الفرنسيون لمواجهة الاحتلال الألماني.

وقدمت تلك المقاومة للبلاد مثالًا يُحتذى به للوفاء بالواجب الوطني، متصدية بذلك لخطر التهديد الوجودي الذي يحوم حول الأمة الفرنسية. وتناقضت أعمال المقاومة تناقضا ملحوظا مع تواطؤ النظام الفرنسي الذي كان مقره في فيشي.

-المقاومة الفيتنامية: فعلى إثر تدخل الولايات المتحدة عام 1955 في فيتنام، وتشكيل حكومة موالية لها في الجنوب لكي تقف بوجه ما اعتبرت أنه “زحف شيوعي”، في حين سعى الفيتناميون الشماليون إلى توحيد البلاد.  وخاض الشعب الفيتنامي ومن ورائه جيش التحرير الفيتنامي حرب عصابات اتهمها الغرب بـ”الإرهاب”، لكنه استطاع في النهاية تحرير وطنه وجرى الإعلان في الثاني من يوليو 1976 عن قيام جمهورية فيتنام الاشتراكية الموحدة بعد 22 عاما على تقسيم البلاد.

وعلى هذا النحو، أثبتت حركات التحرر الوطني في هذه التجارب أنه ليس هناك شعب خسر حربا لتحرير نفسه من الاستعمار.

جنوب إفريقيا ومقاومة نظام الميز العنصري
يعتبر نيلسون مانديلا من أبرز قيادات القرن العشرين في النضال ضد أحد أبشع مظاهر التمييز العنصري الاستعماري فى القرن العشرين، حيث دفع ثمن نضاله سنوات طويلة قضاها داخل السجون، وكان شغله الشاغل أن يحول نظام الحكم القائم على التمييز العنصري، ونقله من حكم الأقلية إلى العدالة والمساواة بين طوائف الشعب بيضا وسودا دون تفرقة بينهما، وأفنى حياته منذ الصغر لهذا الأمر، حتى استطاع تحقيق مراده ودفع بلده إلى الاعتراف بحقوق السود كمواطنين عاديين، وانتقلت البلاد من الفصل العنصرى إلى العدالة والمساواة بفضل نضاله الذى انحنى له جميع زعماء العالم احتراما وتقديرا.

المقاومة والحاضنة الشعبية
والواقع أنه ما كان لحركات التحرر هذه أن تكون وأن تنجج بدون مقاومة ودون ثقافة للمقاومة ، ومن هنا تأتي أهمية ثقافة المقاومة وتعزيز ثقافة المقاومة، ودون أن تكون المقاومة حالة نفسية عاطفية و قناعة فكرية و حالة سلوكية، فالمقاومة الفلسطينية لم تعد ملكا للمنظمات المقاومة بل أصبحت حالة شعبية فلسطينية يحتضنها الشعب ويسندها، ولا يتبرم منها أو يلقي عليها باللائمة فيما يحل به من قبل العدوان الصهيوني من تنكيل وإجرام عسى أن يعزلها عن حاضنتها الشعبية.

وبهذا المعنى، فإن المقاومة إذا كان ينظر إليها بمقاييس السياسية بلغة ” الاستراتيجية والتكتيك ” ، وبناء على ذلك قد ينظر البعض للمقاومة الفلسطينية بأنها مقاومة عبثية، نظرا لعدم تكافؤ القوى وغياب الظهير من دول ” الطوق ” والدول العربية والإسلامية عموما ، هي حقيقة وجودية وضرورة تدافعية لا غنى عنها في الأمم التي تحمل رسالة ، فالحركات المقاومة تضطلع برسالة عالمية قائمة على ثتبيث قيم الكرامة والعدالة والمساواة الإنسانية ، وتسهم من خلال ما تقدمه من تضحيات في إقامة الحجة و الشهادة على العالمين ، وهو ما تضطلع به المقاومة الفلسطينية اليوم. ودون شك فإنها دشنت طريقا نحو تغيير عدد من المعادلات والتقديرات عند مختلف الشعوب والأمم ونخبها الفكرية والسياسية.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى