البناء القيمي في السيرة النبوية

 إن رصد مظاهر الحرص النبوي على إرساء منظومة القيم الإسلامية، واعتبارها اللبنة الأساس لبناء الانسانية يحملنا على الجزم بأن شرف الانتماء لهذا الدين لا يتم إلا من خلال صون هذه القيم وحراستها. خصوصا في ظل متغيرات عالمية تدفع الى التشكيك في جدواها و فاعليتها، وتعتبر ربانية المنبع القيمي تقييدا لحركة المسلم المعاصر و عائقا أمام الانطلاق الفكري و النهوض المجتمعي !

لقد بُعث النبي صلى الله عليه و سلم في بيئة تمتزج فيها بقايا قيم الملة الحنيفية الابراهيمية من مروءة و نبل و كرم ووفاء، مع ما تولد عن الوثنية من قيم شائهة ومنحرفة كوأد البنات خشية الفقر و العار، والحمية الجاهلية التي تُسعر نار الحرب ثأرا لناقة او بعير.

فكان نهجه صلى الله عليه وسلم في اصطفاء القيم النبيلة والسمو بها نهجا غير مسبوق وكان له عظيم الأثر في نسج الشخصية الاسلامية التي ستُرسي في أقل من قرن من الزمان دعائم حضارة لم تشهد لها البشرية مثيلا ! فما هي سمات هذا النهج النبوي؟ وما هي أبرز شواهده من السيرة النبوية ؟

يقول الدكتور جابر قميحة “.. ثم جاء الاسلام – خاتما للأديان- وهذه الخاتمية تقتضي أن يكون أكمل الأديان وأوفاها بحاجات الانسانية، وأبرعها في معالجة الأدواء التي حوتها قائمة القيم الجاهلية، واختلف موقف الاسلام من هذه القيم تبعا لنوعيتها ..
فكان الموقف النبوي من القيم السائدة مبنيا على ثلاث : التحريم، والإقرار، والإعلاء مع مراعاة التدرج في إحداث النقلة الأخلاقية المطلوبة، وتمكين النفوس من التشرب المطمئن لهذه القيم في صيغتها الاسلامية الجديدة !
ومن يتصفح كتب السيرة يشعر أنه أمام رحلة مضنية في سبيل تثبيت القيم الإيجابية وتخليص النفوس من درن القيم الجاهلية المنفرة من خلال الحرص على وصل البناء القيمي بالمنبع الرباني مصداقا لقوله تعالى “إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم”، وبما أن المقال قد لا يتضح إلا بالمثال فسنعرض في الأسطر الآتية شواهد لهذا النهج النبوي الفريد .

لقد بُعث المصطفى صلى الله عليه وسلم في بيئة تحفل بنماذج اللامساواة بيئة يقوم نظامها الاجتماعي على مبدأ القوة و تعتمد في موارد عيشها على التجارة والسلب والإغارة، فكان من الطبيعي أن تنشأ طبقة العبيد والأرقاء وتُسن أعراف وتقاليد تُنزل العبد منزلة الدابة لا بل أسوأ من الدابة نفسها !
كما كان التفاخر بالأحساب والأنساب باعثا على الانحياز للظالم مادام من ذوي القربى واعتبار الذوبان في ذات القبيلة شرفا وعزا حتى وإن كان ديدنها الجور والبطش وكل القوي للضعيف، يقول أحد شعرائهم في هذا الشأن – وهو دريد بن الصمة – :
فـلما عصوني كنت منهم وقـد           أرى غوايتهم وأنني غير مهتد
وهل أنا إلا من غُزية إن غوت         غويت و إن ترشد غزية أرشد

فتوالت الآيات والأحاديث الشريفة التي تُبطل التفرقة العنصرية والمحسوبية، وتُرسي قاعدة المساواة بين الناس وتؤسس لمعيار جديد في التفاضل هو معيار التقوى، كما حرص النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف عدة على التطبيق الحازم لهذا المبدأ السامي، فقد روى الامام مسلم بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : ومن يجتريء عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة  فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتشفع في حد من حدود الله ؟ ثم قام فاختطب فقال : ” يا أيها الناس إنما أهلك الذي قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها “ (2).
وبالمقابل نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم بارك القيم النبيلة التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي قبل بعثته وأثنى عليها، ومنها الأحلاف التي كانت تعقدها القبائل العربية لنصرة المظلوم وإجارة المستجير وإغاثة الملهوف، كحلف ” المطيبين ” و” حلف الفضول ” الذي شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار عبد الله بن جدعان، وأثنى عليه بقوله ” لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الاسلام لأجبت”(3) .

ذلك أن هذه الوثيقة “الجاهلية” تطرقت إلى الدفاع عن حق أساسي من الحقوق الانسانية، وكان لها قصب السبق على “الماجنا كارتا” و”إعلان المواطن الفرنسي” بمئات السنين مما يُثبت مرة أخرى أن البيئة العربية قبل الإسلام وإن لم تبلغ شأن الحضارتين الفارسية والبيزنطية إلا أنها لم تخل كذلك من شواهد النُبل الإنساني الذي ماكان على الإسلام إلا وصله بالسماء لتنهض أرقى الحضارات على أكتاف رعاة الغنم !!

وهذا ما حدث بالنسبة لقيم أخرى كان الباعث لها هو النخوة العربية و لعصبية القبلية فحرص النبي صلى الله عليه وسلم على السمو بها وتنقيتها من شوائب الغريزة وعوامل الأثرة، ويظهر ذلك جليا من خلال موقف الاسلام من الشعر والقيم التي يروج لها.

فمن المعروف أن الأمة العربية أمة شاعرة، وأن الشعر ديوانها ونُسغها وخزان بطولاتها و ثاراتها، و لصائن لذاكرته. أما ميلاد شاعر مفلق في القبيلة فحدث عظيم تقام له الأفراح و تسير بذكره الركبان، بيد أن المضمون الفكري والقيمي الذي يحفل به هذه الشعر كان يتقلب بين الوضاءة والوضاعة، ففيه الغزل الفاحش المتهتك، والهجاء المقذع والمديح الموغل في الكذب، كما أن فيه الغزل العفيف، والتغني بأنبل الخصال الانسانية من حلم و كرم و فداء، وصوغ الحكم والعظات التي كان لسماعها فعل السحر في النفوس .

فلما بُعث المصطفى صلى الله عليه و سلم و طرقت آيات القرآن الكريم مسامع قريش، أذهلهم البيان القرآني فحاولوا عبثا أن يُرجعوا الأمر إلى ملكة شعرية أو خبرة بالكهانة والسحر، لكن الحق سبحانه تولى الرد على مزاعمهم تخليصا لهم من حالة الذهول والارتباك في قوله تعالى “وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر و قرآن مبين” (4).
أما السمو بالقيم الفنية وفي مقدمتها الشعر فسيبينه الرسول صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله تعالى “والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات * وذكروا الله كثيرا * وانتصروا من بعدما ظُلموا * وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون” (5) ذلك أنه لما نزلت هذه الآيات جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وهم يبكون , فتلا النبي صلى الله عليه و سلم : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقال : أنتم . وذكروا الله قليلا .قال : أنتم . وانتصروا من بعد ما ظُلموا. قال : أنتم (6)، وبذلك كشف النبي صلى الله عليه وسلم عن دلالة الاستثناء في الآيات وما يرمز إليه من دعوة للانسجام بين المضمون الشعري و تعاليم القرآن . 

وحين أخذ الشعراء دورهم في المعركة بين الحق والباطل، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحث شعراء الصحابة على نُصرة الدين بألسنتهم كما ينصرونه بسيوفهم، خصوصا وأن ما يذيعه شعراء المشركين من هجاء للرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه كان بمثابة حملة إعلامية مغرضة تصد القبائل العربية عن الدخول في دين الله أفواجا، ومما رُوي في هذا المنحى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت رضي الله عنه: شُن الغطاريف على بني عبد مناف فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في غلس الظلام. ثم إن حسانا أخرج لسانه فضرب به أرنبة أنفه وقال: و الله يا رسول الله  إنه ليخيل إلي أني لو وضعته على حجر لفلقه، أو على شعر لحلقه، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: أيد الله حسانا في هجوه بروح القدس” (7)

هي إذن مداخل ثلاث عالج من خلالها النبي صلى الله عليه وسلم منظومة القيم السائدة : مدخل التحريم، ومدخل الاقرار، ومدخل الإعلاء والتسامي .

وتلك خطوة أولى في البناء القيمي تلاها انصهار هذه القيم في بوتقة الايمان لتكتسب صفة الخلود والثبات .
إن المتتبع لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم في إحداث النقلة المطلوبة من قيم الجاهلية إلى قيم الإسلام الحقة يُدرك سماحة الاسلام في ثنائه وإقراره للفضائل التي سادت قبل البعثة ” حلف الفضول “، كما يُدرك فطرية هذه القيم وـصالتها وكفايتها للمجتمع الإسلامي أمام دعاوى العلمنة الزائفة ! .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
————————-
الهوامش :
(1 ) : د.جابر قميحة . المدخل إلى القيم الاسلامية .ص30 دار الكتاب المصري ط1 1984
(2) : صحيح مسلم . رقم : 1688
(3) : أخرجه البخاري في الأدب المفرد (567) و البيهقي في سننه الكبرى (6/367) من حديث طلحة بن عبد الله ين عوف وهو حديث صحيح و إسناده مرسل .
(4) : سورة يس .الآية 69
(5) : سورة الشعراء . الآيات 223-226 .
(6) : ابن كثير.تفسير القرآن العظيم .3/354 .دار المعرفة بيروت 1982
(7) : ابن عبد ربه الأندلسي. العقد الفريد .5/277 مطبعة لجنة التأليف و الترجمة و النشر. القاهرة ط 3 1965 1- فقابل بعضها بالرفض وقضى عليه قضاء مبرما .

حميد بنخيبش

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى