ذة مليكة شهيبي تكتب: احتفال بطعم الألم والأمل

  من أهم مؤشرات رقي الأمم واستنهاض الحضارات، مدى احترامها وتقديرها للمرأة. واعترافها بفكرها بكفاءتها بكينونتها، بمشاركتها ومساهمتها في هذا الكسب الإنساني الذي وصلت إليه الإنسانية بجانب الرجل.

 فالمرأة لعبت وما تزال دوراً محوريا في تشكيل وتطوير الحضارات. فقد تركت عبر التاريخ بصمة في مختلف المجالات، إن على مستوى الفنون والأدب أو العلوم والتكنولوجيا ولا ينكر ذلك إلا جاحد. ولم تبرز يوما قضية المرأة كموضوع للنقاش إلا بعد عصرين:

  • عصر الانحطاط الذي عرفه العالم الاسلامي حيث تراجع الاجتهاد في التشريع والفقه والفكر وحيث ظلت قضايا المرأة في الإسلام حبيسة فقه النساء الذي كبل يديها وقص جناحيها للانطلاق كما انطلقت مع الرعيل الأول، حيث ساهمت في بناء اللبنات الأولى للإسلام بفكرها وجهادها وعلمها ملتزمة بضوابط إسلامية لم تكبلها يوما من القيام بأدوارها الطلائعية إلى جانب الرجل، فكلاهما في نظر الإسلام إنسان كامل الأهلية وكلاهما خُلقا ليُكملا بعضهما البعض وليقوما جنبا إلى جنب بمهمة الاستخلاف التي جعلها الله كُنْهَ هذه الحياة ” إني جاعل في الأرض خليفة”.
  • كما أثيرت قضية المرأة للمرة الثانية بعد عصر التنوير حين خرجت فيها المرأة للعمل في بيئة من الذل والاستغلال الاقتصادي والاجتماعي وحتى الجسدي أحيانا حيث تُعُومِل معها كجنس بشري منحطّ لا يرقى لمرتبة الرجل صانع الحضارة الأوروبية.

وبين عصر الانحطاط الإسلامي وعصر التنوير ظلت قضية المرأة بين إفراط وتفريط:

  • تفريط وصل لحد حرمانها من حقها في التعلم ولحد الإفتاء بتحريم خروجها من بيت أهلها إلا لبيت زوجها أو للقبر، مستندين في ذلك إلى أحاديث ضعيفة أو منفصلة عن سياقاتها التشريعية والتاريخية.
  • وإفراط في المطالبة بحقوقها ومساواتها مع الرجل لدرجة التماثلية التي أدخلت المرأة والرجل في علاقة مَرضية تطبعها الندية والتصارع حول الحقوق والواجبات، ضاربين عرض الحائط كل الفروقات البيولوجية والنفسية والفكرية التي أوجدها الله سبحانه فيهما لضرورة التكامل.

والغريب في الأمر أن للمرأة قدرة عجيبة على التكيف مع مختلف الإطارات التي يمكن أن تُنسج لها إفراطا كانت أو تفريطا نظرا للأدبيات الذكورية التي كَتبت في قضيتها والتي تلقت المرأة رسائلها وتشربت معانيها دون نقد أو تمحيص في غياب شبه تام لأدبيات بصيغة الأنثى تعبر عن قضاياها الحقيقية وتلامس تحدياتها الواقعية وليست التي تملى عليها من فكر ذكوري أخطأ فهم مقاصد الشريعة الاسلامية أو أجندات خارجية انبثقت من مجتمعات وبيئات تختلف مشاكلها ومنطلقاتها لمناقشة القضية حد التناقض.

       لن أناقش اليوم من المسؤول عن جعل المرأة “قضية للنقاش” ولكن أريد أن أسلط الضوء على نقط مهمة غالبا ما يغفلها الكثير في خضم الحديث عن قضية المرأة، فأقول: 

  • إن الظلم الذي تعيشه المرأة اليوم هو جزء من الظلم الذي يعيشه العالم بأسره، فهي جزء لا يتجزأ منه ولم تسلم منه المرأة والرجل على حد سواء.
  • إن تكريس دونية المرأة في عصر الانحطاط وتحقيرها وتشييئها في عصر الأنوار، تتحمل فيه المرأة جزءً من المسؤولية لتغييبها فكرها وقبولها بالأدوار التي رسمت لها بل والدفاع عنها في بعض الأحيان وتوريثها للأجيال عبر تربيتها لهم على نفس النمط الذي ترفضه.
  • إن تسليط الضوء على تفاصيل هامشية في هذا النقاش، أدخل المرأة والرجل في حلبة صراع لا تنتهي لعبتها وتبقى العلاقة بينهما بعيدة عن مقومات الاستقرار والاستمرار من مودة ورحمة وسكن وسكينة، وبعيدة عن الانبعاث الحضاري من خلال إحياء الأدوار الحقيقية لهما.

إن النقاش الدائر حول قضية المرأة على كونها مظلومة من الرجل، سيُبقي هذه القضية دائما موضع صراع بينهما، والأَولى والأَصحّ ان تُحوّل بوصلة القضية من مستوى النقاش إلى مستوى الفعل والاهتمام بالقضايا الحقيقية بدل الصراعات الوهمية، قضايا البناء الحضاري لهذه الأمة وقضايا بناء الإنسان وتحريره من الظلم والاستبداد والتبعية العمياء للغرب التي فُضحت ادعاءاتُه في الحرب اليوم على غزة.

ولن أجد مثالا حيًّا لمثل هذا النّداء، مثل قضية المرأة الفلسطينية عامة والغزاوية خاصة، فقد تلاشى عندها هذا النقاش البئيس حول حقوق   المرأة والرجل وصراع الأدوار؛ فرغم الحرب والآلام المحيطة بها والظروف الصعبة التي تواجهها، لم تتوان في الخروج جنبا إلى جنب مع شقيقها الرجل في ميدان المعركة كما نِساء الرعيل الأول، واضعة نصب عينيها أهداف النصر والحرية والتمكين للإنسان الفلسطيني في أرضه وبلده المغتصَب. فرغم الاعتداءات الوحشية عليها ورغم كسر روحها من خلال تقتيل زوجها وفلذات أكبادها، تبقى شامخة وتظل مصدر إلهام للعديد من نساء العالم اللواتي يتذمرن أحيانا لمجرد عدم  إحضار زوجها وردة لها في ذكرى عيد الحب.

          إن على المرأة أن تعيَ بعمق وتدرك أن دورها الحقيقي هو مثل دور الرجل في تحقيق الاستخلاف في هذه الأرض وبناء صرح هذا الدين العظيم وأن اختلافها عن الرجل هو اختلاف تكامل وأن التفاضل القرآني بينهما هو تفاضل مرتبط بهذا الاختلاف وهو تفاضل تشريف وليس تنقيص منها.

       إن تسليط الضوء على المهام الحضارية للإنسان وتقليص فجوة الصراع الوهمي بين الرجل والمرأة على الحقوق والواجبات في عالم ينتظر منهما التعاون والتفاهم والرقي الفكري والتلاحم النفسي والصفاء الروحي، كفيل بإعادة النقاش إلى سِكَّته الصحيحة من أجل تحقيق الاستخلاف في هذا العالم، مثلما تحاول المرأة الفلسطينية اليوم وهي تتطلع لعالم يسوده الحرية والعدل والأمن والسلام بعيدا عن صراع الأدوار في احتفالية عيد المرأة العالمي لكن بطعم الألم والأمل. 

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى