د سعد الدين العثماني يكتب: 4- الحرية الجنسية والخضوع لاقتصاد السوق

تحدثنا في مقالين سابقين عن السمتين الأوليين المؤثرتين على تطورات الأسرة في الفكر الغربي الحديث، وهما العقلانية المفضية إلى الانقطاع عن الوحي والفردانية. ونتطرق في هذا المقال للسمة الثالثة وهي الحرية الجنسية.

فلئن عرفت الحريات الشخصية في المجتمع الغربي طفرة إيجابية منذ القرن السابع عشر، تنظيرا وتطبيقا، وخصوصا حرية التّنقل وحرية الأمن الشخصي وحرية المراسلات وحرية المعتقد وحرية التعبير عن الرأي، فقد حدث تطور آخر ببروز الحرية الجنسية، وتطورها بالخصوص منذ ستينيات القرن الماضي. وهو ما أدى إلى تغيرات عميقة في العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة والنظرة إلى العلاقات الجنسية، بحيث وصف ذلك من قبل الباحثين الغربيين بأنه “أحد الجوانب الأكثر إثارة للقلق فيما أصاب العلاقات الأسرية من تغيير، وهو تحول عميق مذهل، وقد يكون أهم تغيير أثر على حضارتنا قبيل الألفية الثالثة”[1].

وهكذا تطورت ثقافة الجنس الجديدة في المجتمعات المعاصرة على مستويين.

المستوى الأول هو المستوى الفردي، حيث أضحى الجنس مرجعية في ذاته، وأصبحت ممارسته داخلة في السلوك الفردي الخاص، للشخص حريته الكاملة فيه. فأخرجت العلاقات الجنسية بالتالي من دائرة النظام العام وجردت من حق المجتمع، الذي لم يعد له حق أن يتدخل فيه بضبط أو تقييد. كما صاحب ذلك اعتبار تصرف الفرد – رجلا أو امرأة – في جسده حرا طليقا من أي ضوابط أو حتى معايير. ولا بد من الإشارة إلى أنه كانت هناك دائما مخالفات للمعايير السائدة في المجتمعات من قبل في موضوع العلاقات الجنسية، لكن الجديد في المجتمعات الغربية المعاصرة هو أن ما كان يعتبر انحرافا، مثل العلاقات خارج إطار الزواج والعلاقات الجنسية المثلية، أصبح يسوق بوصفه أيضا أمرا عاديا وحقا من الحقوق، وليس بوصفه مخالفا للمعايير الاجتماعية. لقد تغيرت الثقافة نفسها وتغيرت معاييرها.

وهكذا أصبحت اللذة الجنسية غاية في حد ذاتها، وبكل الوسائل المتاحة، ومع أيّ كان، سواء كان رجلًا أو امرأة أو حيوانًا أو آلة أو غيرها، مما جعل باحثين يعتبرون الحضارة المعاصرة حضارة “اللذة الجنسية أو المادية”، مغلفة بغلاف الحرية الشخصيّة. 

المستوى الثاني هو المستوى الجماعي، فقد أصبحت اللذة إحدى الآليات التي يستخدمها المجتمع المعاصر في استيعاب الجماهير في عمليات الضبط الاجتماعي، وتتم هذه العمليات بالإغواء وترسيخ الإحساس في المجتمع بأن حق الإنسان الأساسي والوحيد هو الاستهلاك، وبأن إشباع اللذة هو أقصى تعبير ممكن عن الحرية الفردية[2]. وتفنن اقتصاد السوق المسيطر في عرض جسد المرأة وزينتها، واعتبار ذلك “رأسمالا” يباع ويشترى ويستثمر فيه. وانتشرت مؤسسات صناعة المتعة وتجارات الزينة والتجميل والإغراء. كما أضحى الجنس نفسه تجارة تشجع وبضاعة تستهلك ونشاطا اقتصاديا مقننا. “وتضخم (بل تغول) قطاع صناعة اللذة، وهيمن على الحياة الخاصة التي تم استيعابها في رقعة الحياة العامة”[3].

وهكذا دخلت الحياة الجنسية متوالية من التغيرات العميقة، جعلته يرتكز أكثر على الصلات العابرة وانعدام الثقة وتجنب الالتزام مع الشريك، إلى أن أصبح ذلك ثقافة يتم الترويج لها وليس فقط أمرا متروكا للقناعة الشخصية. وهو في الحقيقة يقع في فخ تسليع العلاقات العاطفية وجعلها منفصلة عن أي مسؤوليات من بناء أسرة أو تربية أبناء.

وهذا ما يسميه عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان  Zygmunt Baumann: “الحب السائل”، وذلك في إطار تنظيره لما أسماه “الحداثة السائلة”. وهو عنوان كتاب أصدره سنة 2000م، بينما أصدر كتابه “الحب السائل” سنة 2003. ويعرف باومان السيولة بأنها حالة مستمرة من إذابة وتمييع مجموعة كبيرة ومتنوعة من الكيانات التي تستمد بقاءها واستمراريتها من داخلها بشكل ثابت، وهي البنى الاجتماعية، والروابط الإنسانية، والنماذج السلوكية، والأخلاق والقيم وما إلى ذلك، وتكون إذابتها عن طريق “التحديث” المستمر لها، التحديث الوسواسي القهري-الإدماني لها حسب وصف باومان، والإذابة المتواصلة إلى حد لا يجعل هناك حالة نهائية في الأفق، ولا هدفا يسعى للوصول إليه[4]. ومن هنا أضحت سمات العلاقات الإنسانية في الحياة المعاصرة هي الميوعة وفقدان الاستقرار. ومع شيوع غياب الأمن طويل الأمد يصبح البديل هو الإشباع الفوري، ولم يعد ممكنا إرجاء الإشباع، كما لا يبقى للتضحية بالمصلحة الشخصية لمصلحة المجموع مكان[5].

هذه الأوصاف تماما تنطبق على “الحب السائل” الذي انتهت إليه طبيعة العلاقات الجنسية في ظل الحضارة المعاصرة، كما بسطه زيجمونت باومان في كتابه: “الحب السائل: عن هشاشة الروابط الإنسانية”. وفيه قام بتطبيق رؤيته العامة حول السيولة، على العلاقات الجنسية في المجتمع الغربي. ومما ورد فيه من توصيف ذلك:

 

“وفي هذا العالم المائع (…) يظهر الناس ويختفون، وتأتي الفرص وتضيع، وتحلو الحظوظ وتسوء، وتتسم العلاقات بأنها عائمة ومرنة وواهية. فالناس يبحثون عن شركاء و”يدخلون في علاقات” اجتنابا لفظاعة الهشاشة، فلا يجدون إلا هشاشة أشد فظاعة وألما، ويتضح لهم أن ما يحسبونه ملاذا من الهشاشة إنما هو منبتها الطبيعي الدافئ”[6].

 

هذه الخلاصات التي انتهى إليها زيجمونت باومان سجلتها كذلك عشرات الدراسات الغربية من قبل علماء نفس وعلماء اجتماع ومتخصصين من فروع معرفية أخرى. وأطال في تحليلها المعالج النفسي الفرنسي توني أناتريلا Tony Anatrella في كتابه: “الجنس المنسي” Le sexe oublié. فقام بنقد الثقافة الجنسية المعاصرة التي تركز بشكل كبير على التحرر الجنسي والرغبات الجنسية الفوضوية وتحريك الحدود الأخلاقية، مما قد يؤدي – حسب ما لاحظ – إلى زيادة العنف الجنسي والمشاكل النفسية والاجتماعية.

أما عالمة الاجتماع إيفا إيللوز  Ava Illouzفكتبت كثيرا عن الاضطراب والفوضى المعاصرة في مجال العلاقات الجنسية، وركزت بالخصوص على أن اقتصاد السوق هو الذي يوجه ويستفيد من الحرية الجنسية كما مورست غربيا. وهو الذي يحدد المعايير والحدود ويجني الثمار. تقول عالمة الاجتماع بالحرف: “الفلسفة العامة والتنظيم القانوني للسياسات الليبرالية باتا يفضلان نوعا خاصا من الحرية، أعني الحرية السلبية” بدون محتوى معياري، وهو ما يخلق خواء وفراغا “يمكن استيطانه بسهولة بقيم السوق الرأسمالي، والثقافة الاستهلاكية والتكنولوجيا”[7].

هذه التحولات أثرت بشكل كبير على الأسرة، فما هي تلك التأثيرات حسب البحثين الغربيين ؟ هذا ما سنراه في الحلقة المقبلة إن شاء الله.

[email protected]

[1] – Georges Duby : L’amour n’est plus ce qu’elle était, Dans : Amour et sexualité en occident, Editions du Seuil, 1991, p. 13

[2]  – عبد الوهاب المسيري: دراسات معرفية في الحداثة الغربية، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006/، ص 119

[3]  – عبد الوهاب المسيري: دراسات معرفية في الحضارة الغربية، ص 110

[4]  – زيجمونت باومان: الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، بيروت، 2016، ص 21.

[5]  – نفسه، ص 230 وما بعدها.

[6]  – الحب السائل: عن هشاشة الروابط الإنسانية، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، بيروت، 2016، ص 60.

[7]  – نهاية الحب: سوسيولوجيا العلاقات السلبية، ترجمة جلال العاطي ربي، الناشر: صفحة سبعة، المملكة العربية السعودية، 2022، ص 28 – 29.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى