رمال يكتب: نونبر شهر الملاحم المغربية “الاستقلال” و”المسيرة الخضراء” دروس السّلف للخلف

يشهد المغاربة في شهر نونبر ذكرى “المسيرة الخضراء” و”الاستقلال”. وهما محطّتان تستحقّان أكثر من مجرّد وقفات احتفالية؛ لأنّ الاحتفال وإن كان يذكّر بالمناسبة؛ إلاّ أنّه لا ينقل تفاصيل الوقائع التّاريخية ولا يورّث الأجيال أصول القيم التي كانت الأساس الذي صنع تلك الوقائع.

والحال أنّ كلّ محطّة من هاتين المحطّتين كانت ملحمة كتب المغاربة تاريخها بمداد من الفخر والاعتزاز والشّجاعة والتّضحية، وخلّفوا وراءهم دورسا يجد فيها خَلَفُهم من الأجيال المتعاقبة ما يجعلهم يعضّون بالنّواجد على الإجماع الوطني حول وحدة وطنهم وعلى المزيد من تحصين استقلالهم وسيادتهم.

المحطّة الأولى: ملحمة الاستقلال

إنّ المتأمّل بإمعان فيما حدث ويحدث في العقدين الأوّل والثّاني من القرن الواحد والعشرين الذي نعيشه؛يبدو له جليّا كيف عادت الدّول الكبرى من جديد تَحِنّ إلى احتلال واستعمار الدّول الصّغيرة أو الضّعيفة مسخّرة لذلك ترسانتها الإعلامية العابرة للقارّات.

ولئن كانت كلّ بلدان المغرب الكبير شمال أفريقيا قد أخذت نصيبها من الاحتلال والاستعمار فقد تفاوتت فترات مكوث المستعمر فيها من بلد إلى آخر. فقد مكثت فرنسا في الجزائر 132 عاما ما بين 1830 و1962، وفي تونس 75 عاما ما بين 1881 و1956. وفي المقابل فإنّ المحتلّ الفرنسي لم يستطع دخول المغربإلاّ عام 1912؛ وبموجب حيلة معاهدة “حماية”؛ ليخرج منه مطرودا بعد رجوع الملك الشّرعي في 16 نونبر 1955، ويغادر نهائيا عام 1956؛ وهو ما جعل فترة إقامة المستعمر في المغرب أقل بكثير من البلدان المجاورة؛ أي حوالي 44 سنة.

بل إنّ المغاربة لم يمنعهم انشغالهم بالمقاومة لانتزاع استقلالهم؛ لم يمنعهم ذلك من العمل على إذكاء شرارة المقاومة في الدّول المجاورة؛ حتّى اجتاحت بقيةَالدول الشّقيقة لتتحرّر تونس ثم الجزائر بعد ذلك. وذلك وفاء لتعاليم الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم:الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا…. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: مثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.البخاري ومسلم عن أبي موسى.

ولعلّ السّر وراء طرد المستعمر من المغرب هو أنّ المغاربة اجتمعت لهمعدة مقوّمات منها:

  • دولة لها تاريخ عريق، ارتبط فيه ملوكها برعيتهم برباط البيعة الشرعية الصادقة، والتي لم يشذ عنها محمد الخامس رحمه الله حيث ظل وفيا لها؛فلم يضعف أمام المغريات ولم تُخِفه التهديدات؛واحتمل العزل والنّفي على أن يخون عهد البيعة الذي في عنقه لشعبه.
  • وشعب مقاوم موحّد بدينه وقرآنه مؤمن بوعد ربّه؛ جَمَعه الإسلام ووحّده القرآن فأيقن بوعد الله تعالى بالنّصر والتّمكين.
  • ومجتمع عرف كيف يتخلّص من أورامه الخبيثة المتمثّلة في الخونة والمرتزقة الانتهازيين أصحاب المصالح الشّخصية الذين لا يفكّرون إلاّ في أنفسهم ولا يرعون حرمة للدّين ولا للوطن.

لقد ضحّى المغاربة بكلّ غال ونفيس وعرّضوا أنفسهم لغضب المستعمر وانتقامه ولم يبالوا؛ فعلوا ذلك جهادا في سبيل الله، مصداقا لقوله تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً). النساء74؛ وبروح وطنية عالية أكّدوا بها ولاءهم لبلدهم؛ وقيامهم بواجباتهم تجاه وطنهم.

إن حب الوطن من الفطرة التي جُبل الإنسان عليها، فطبيعي جدّا أن يُحب الإنسان وطنه الذي نشأ على أرضه، وشبَّ على ثراه، وترعرع في خيراته ونِعَمه. كما أنه ليس غريباً أن يشعر الإنسان بالحنين الصادق لوطنه عندما يبتعد عنه، فما ذلك إلا دليلٌ على قوة الارتباط وصدق الانتماء. ومن ثمّ فإنّ الحكمة المشهورة: {حب الأوطان من الإيمان}ولو لم تكن حديثا إلاّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان خير قدوة في حبّ وطنه وبلده؛ حيث قَالَ لِمَكَّةَ يوم خرج منها: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ»سنن التّرمذي؛ المناقب؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.ولمّا قدم المدينة ليستقرّ فيها قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ …».صحيح البخاري؛ فضائل المدينة؛ عَنْ عَائِشَةَ.

إن العالم يشهد اليوم رِدّة متمثّلة في نزوع الدّول القويّة المتجبّرة وتسابقها من جديد نحو الاستعمار المباشر أو غير المباشر للمناطق والدّول ذات الثّروات، ومن ثمة فإنّ الحاجة اليوم ماسة إلى نشر الوعي وتحصين الأجيال النّاشئة. إنّ الاستعمار لا ينشأ عسكريا بالسّلاح منذ البداية؛ ولكن له مقدّمات فكرية تبدأ بتخريب القيم الأصيلة النّبيلة الجامعة واستبدالها بأفكار دخيلة غريبة على البلد؛ حتّى إذا فقد المجتمع مناعته وتوازنه وضيّع استقراره ووحدته؛ ظهر فيه الانتهاز والارتزاق والخيانة وسهل الانقضاض عليه بالسّلاح، ونُهبت خيراته بلا مقاومة ولا دفاع.

إنّ المغرب اليوم ينعم بقسط وافر من الاستقرار، والمغاربة في حاجة إلى اليقظة الدّائمة والاحتياط من كلّ فكرة من شأنها أن تبثّ التّنازع بين رجاله ونسائه أو شيوخه وشبابه أو عربه وأمازيغه….. لأنّ ذلك لا يمكن إلاّ أن يُضعف الوطن ويخدم أعداءه.

ولذلك يجب أن يبقى المغاربة على أصلهم؛يدا واحدة على من عاداهم أو عدا عليهم؛ موحَّدين خلف عاهلهم، محافظين على وحدة صفّهم وبلدهم، ملتزمين بكتاب ربّهم، متّبعين سنّة نبيّهم، متبصّرين بما يُصلح ويخدم وطنهم ويحصّنهم من كلّ تشتيت وتمزيق، متحسّبين لكلّ محاولات المتربّصين من الأعداء والخصوم. 

المحطّة الثّانية: ملحمة المسيرة الخضراء

لقد كانت ملحمة المسيرة الخضراء درسا بليغا في وحدة صفّ المغاربة مهما اختلفت أعراقهم وأعرافهم؛ درسا في استرجاع حقّ مغتصب بطريقة سلمية راقية. ففي السادس من نوفمبر عام 1975، تجمع حوالي 350.000 من المغاربة من بينهم 35.000 امرأة في مدينة طرفاية لينطلقوا جميعا نحو صحرائهم؛ ليس معهم من سلاح إلاّ كتاب الله، وملوّحين بالأعلام الوطنية المغربية وبصور عاهلهم، ولا أحد منهم يضمن أو يعرف هل يعود إلى أهله أم لا يعود.

وفي يوم 14 نونبر 1975 استعاد المغرب أقاليمه الجنوبية رسميا بموجب اتفاقية مع إسبانيا وموريتانيا أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة وصادقت عليها -اجّماعة- وهي الهيئة الصحراوية الوحيدة ذات الطابع التمثيلي الحقيقي لقبائل الصّحراء، والتي يجمعها ولاء عريق ودائم بالسلاطين المغاربة على مدى عدة قرون قبل وإبّان وبعد الاحتلال الإسباني؛ كما تشهد لذلك العديد من المعاهدات التي أبرمها المغرب مع كلّ من إسبانيا عام 1821 والولايات المتحدة الأمريكية عامي 1786 و1836 وبريطانيا عام 1856 بشأن الصّحراء.

وقد كانت المسيرة أيضا استجابة لاستغاثة المغاربة الصّحراويينواستنجادهم بإخوانهم المغاربة؛ فبأي حقّ يتخلّى المغاربة عن إخوانهم في جنوب بلدهم؟ وهم يحفظون قول الله تعالى: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَاءِ وَٱلْوِلْدَانِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَٱجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا)النّساء؛ 75. ولِمَن يتركونهم؟ يكفي النّظر إلى حال الصّحراويين الذين استُدرِجوا إلى مخيمات العار والذّل في تندوف؛أزيد من أربعة عقود من حياة الرّق والاستعباد في المخيّمات؛ والمرتزقة يستجدون ويستجلبون بهم الأموال والإعانات التي يعيدون بيعها في الأسواق السّوداء عبر العالم.

فلم يكن ممكنا للمغاربة أن يخذلوا إخوانهم الصّحراويين ولا أن يُسلموهم لمثل هذا الهوان؛ وهم يحفظون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ….>>صحيح البخاري؛ المظالم. عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

ولِمَ وكيف يقبل المغاربة في زمن التّكتّلات والتّحالفات والاتّحادات التي تتقّوى وتحصّن بها الدّول اليوم؛ لِمَ يقبلون السّكوت والتّفرّج على قيامٍ مُفتعل لدويلة لقيطة وسط دول الاتّحاد المغاربي الكبير لتزرع بينهم الفرقة والنّزاع والتّشتّت والفتن؛ بالضّبط كما فعلته الدّولة المزعومة المحتلّة لفلسطين في قلب المشرق العربي.

وللأسف رغم وفاء المغرب والمغاربة لجيرانهم؛ حيث كان المغرب دائم الوفاء لدول الجوار؛ إلاّ أنّه لم يلق نفس الوفاء؛ فبعد الاعتراف الصريح لمحكمة العدل الدولية بحقوق المغرب على صحرائه عن طريق تأكيد روابط البيعة التي تربط شيوخ قبائل إقليم الصحراء بسلاطين المغرب؛ وبعد نجاح المسيرة الخضراء وجلاء القوات الإسبانية؛استمر دعم بعض الجيران للانفصاليين الذين خاضوا مجموعة من الحروب اصطدمت كلّها في الماضي والحاضر بقوة الترسانة العسكرية المغربية بحيث لم يُترك للعدوّ فرصة لتحقيق أهدافه بفرض السيطرة على أي جزء من الأقاليم المسترجعة.

وهذه الرّوح؛ روح الإجماع الوطني والتّضحية التي طبعت فترة المسيرة الخضراء هي التي يجب نقلها وتوريثهاللأجيال النّاشئة التي لم تعش الملحمة التي كتب الآباء والأجداد أمجادها وخلّد التّاريخ ذكرها.

والله تعالى يحبّ أن يكون المسلمون موحّدين بصفوف مرصوصة متماسكة حتّى لا ينال منهم عدوّهم قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].وما دام المغاربة على هذا الحال من التّمسّك بوحدتهم في الدّين والعقيدة فلن يخيفهم شيء؛ والنَّبِيُّصلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ <<… وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ>>صحيح البخاري؛ العلم. مُعَاوِيَةَ

إننا نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى تّنشئة الأجيال على صيانة وحدة الصّف؛ويجب أن يصبح ذلك محورا أساسا من محاور التّربية على المواطنة في كلّ المستويات والأسلاك والشّعب، كما يجب أن يتضمن في البرامج الإعلامية المهيمنة في القنوات الإعلامية والجرائد والصّحف المواطنة حتّى تستمرّ يقظة المغاربة في الأجيال القادمة؛ فيدركوا مخطّطات أعدائهمولا يلتفتوا إلى البدع الفاتنة ولا الإشاعات المغرضة التي تنتشر مثل النّار في الهشيم، ويكونُ دائما “التّبيّنُ” هو شعارهم كي لا يصيبوا وطنهم بجهالة،مصداقا لقول الله تعالى (فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَٰلَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَ). الحجرات؛ 6.

وهذه من تلك

  وإذا كانت ملحمة الاستقلال هي التي حصل بها المغاربة على استقلال معظم بلادهم؛ فإنّ ملحمة المسيرة الخضراء حلقة من حلقات استكمال الملحمة الأولى؛ إذ هي أيضا تحرير لجزء من أجزاء الوطن التي بقيت تحت الاحتلال. واليوم يتعيّن على المغاربة صيانة مكتسباتهم وعدم الالتفات إلى كلّ ما من شأنه أن يمزّق صفّهم أو أن يضعف وحدتهم حتّى يصونوا استقلالهم ويَنعَموا بتمام نعمة الله عليهم.

أمّا أعداء المغرب المباشرون وغير المباشرين الذين ينفقون الأموال من أجل الكيد للمغاربة والنّيل من وحدتهم وإضعاف مكانتهم؛ فهؤلاء كما خسروا عدّة محاولات سابقة؛ سيخسرون المعارك الجارية وتلك التي يخطّطونها للمستقبل: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}(الأَنْفال 36).

والحمد لله ربّ العالمين.

د. أوس رمال.

 

-*-*-*-*-*-*-*-

اطلع على رسائل الإصلاح السابقة:

 

رمال يكتب: حاجتنا جميعا إلى قمّة التّعبئة في مواجهة الجائحة

فلولي يكتب: الصحراء المغربية في مواقف حركة التوحيد والإصلاح

التواج يكتب: النبي الإنسان صلى الله عليه وسلم

شيخي يكتب: كي لا نخطئ السبيل لمقاومة الانعزالية والتطرف

الموس يكتب: فاجعة مقتل الطفل عدنان.. الدروس والعبر

باخوش يكتب: الدخول المدرسي في زمن كورونا  ورهانات التطوير والتجويد
شيخي والموس يكتبان: استمرار رسالة المسجد في ظل جائحة كورونا

ابراهمي يكتب: على هامش التعاطي الإعلامي مع قضية “فقيه ملوسة”

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى