“الأسرة ونظام القيم” دراسة تأصيلية تحليلية توظف تقنيات جديدة لاستقراء القيم الأسرية ومدى خدمتها للبنيات المجتمعية
يلقي موقع “الإصلاح” خلال هذا الشهر الرمضاني الكريم الضوء على عدد من الأطروحات والرسائل الجامعية النوعية التي تعالج عددا من قضايا ومشاريع الإصلاح في تخصصات مختلفة.
وسنخصص في ثاني حلقة من هذه الفقرة الرمضانية أطروحة للدكتور محمد البراهمي؛ مسؤول قسم الدعوة المركزي وعضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح، نال بموجبها شهادة الدكتوراة بعنوان ” الأسرة ونظام القيم دراسة تأصيلية تحليلية”.
موجز عن أطروحة تحت عنوان
” الأسرة ونظام القيم دراسة تأصيلية تحليلية”
أطروحة دكتوراة حضرها وناقشها ذ. محمد البراهمي
تمتح الدراسة أهميتها من أهمية الأسرة التي تعتبر أهم المؤسسات المؤثرة في البناء الاجتماعي وفي استمراريته وفاعليته، وفي بلورة القيم وغرسها بمختلف أبعادها الدينية والأخلاقية والاجتماعية.. كما يتجلى ذلك في فصول الدراسة، ولكونها القناة الأولى التي تنقل منها شبكة المفاهيم، ومعايير السلوك، وأهداف المجتمع وغاياته، من خلال وظائفها وشبكة علاقاتها، فهي مرآة عاكسة لصور التغيير والتحولات المختلفة التي يعرفها المجتمع، كما أنها خلية أولى تنبني عليها حركية وفاعلية كافة المؤسسات والهيئات في المجتمع.
كما تتجلى أهمية الدراسة في تناولها لموضوع الأسرة ارتباطا بموضوع القيم، التي يحتاجها الفرد كما تحتاجها الأسرة أثناء التعامل مع الأشخاص والأشياء والهيئات والمؤسسات والمواقف والأفكار، لأنها موجهات للسلوك والأفكار والمواقف والأنشطة المختلفة، وفي غيابها يكون الاغتراب في الذات وعن الذات، وفي المجتمع وعن المجتمع، فأهمية تكمن في كونها حاجة فردية واجتماعية، إذ تنظم وتوجه علاقة الفرد بالمحيط ومكوناته، وتساهم في تماسك المجتمع وتوجيهه وتنظيم العلاقات بين مؤسساته.
كما تتجلى أهميتها في اعتماد منهج يجمع بين الوصف والحكم، وبين الدراسة الشرعية والاجتماعية، فالدراسة خطوة في وصل الصلة بين البحث الاجتماعي وقضايا القيم، والجمع بين الدراسة الاجتماعية والعلوم الشرعية، إذ سلامة تنزيل الحكم الشرعي يقتضي مراعاة الواقع الاجتماعي بأعرافه وعاداته ومتغيراته وتحدياته ومكوناته، وهو من صميم العلوم الشرعية خاصة في مباحث الفتوى وتنزيلها وما يتطلبه من مراعاة للمقاصد الشرعية الخاصة بالشارع والمكلف، التي يجمعها علم المقاصد، كما أن الفتوى لا تصدر إلا بناءً على صورة واضحة للفقيه وعالم الشريعة بالواقع وحيثياته.
ومنه فالدراسة تسعى جاهدة إلى كسر الجليد بين الدراسات الإسلامية والاجتماعية، وإعادة دور الفقيه في الدراسات الاجتماعية ومشاكل المجتمع وتحدياته الحديثة، خاصة وأن هناك دراسات تناولتنا، وتناولت قضايانا الاجتماعية والفقهية والدينية والسياسية والاجتماعية، لكن ليس بمنظارنا وعيوننا، دراسات تفرض توجهات وتشكل سياسات تجاه مجتمعاتنا وأوطاننا.
فالدراسة بهذا المنهج ستساعد على وصف الواقع بشكل علمي لاعتمادها تقنيات علمية مستمدة من مناهج متعددة كما هو واضح في فصول الدراسة، وهو ما يساعد على فهم الحكم الشرعي وتنزيله على الواقع بشكل أفضل، إذ تنزيل الحكم يقتضي فقه للواقع، إلى جانب فقه للنص وتنزيله، والدراسة تندرج ضمن فقه الواقع لحسن تنزيل النص الشرعي.
هذا بالإضافة إلى إنها تساعد في حسن فهم الحياة وفق رؤية إسلامية تنطلق من رصد الواقع وتقويمه وتوجيهه، أي تسعى إلى المساهمة في بلورة سياسات اجتماعية ناتجة عن فكر منظم يحدد الأهداف ويوجه التخطيط والمشاريع والبرامج
أي أن الدراسة تهدف إلى الإسهام في التوصل إلى معطيات يساعد توظيفها السليم في توجيه المجتمع واستقراره وتقدمه، فالدراسة الاجتماعية المسترشدة بالرؤية الإسلامية خطوة لبناء رصيد معرفي يساهم في تحريك العملية الذهنية لحلحلة الركود المعرفي والبحثي في مجال الدراسات الاجتماعية، التي يترتب عليها بالتبع تحريك الفعل الاقتصادي والتربوي والاجتماعي.
وقد انطلقت الدراسة من مشكلة وأسئلة مؤطرة لمحاورها، مفادها إذا كانت الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى التي ينشا فيها الفرد وتتشكل فيها علاقاته وتفاعلاته الاجتماعية، وتتبلور فيها منظومة قيمه، وإذا كانت القيم هي المعيار الموجه لسلوك الإنسان تجاه مختلف الجهات والمكونات، فإلى أي حد ما زالت الأسرة تساهم في التنشئة على القيم، والمحافظة عليها من خلال وظيفتها وشبكة علاقاتها المختلفة؟
وإلى أي حد أثرت التحولات الاجتماعية والمتغيرات البيئية والتاريخية في وظيفة الأسرة على مستوى التنشئة الاجتماعية، وإنتاج منظومة القيم وتحصينها؟
وهل الأسرة مجرد مستهلك لقيم جاهزة ومصدر لفئات بشرية؟ ومحافظ على استقرار المؤسسات الاجتماعية؟ أم أنها مؤسسة مصدرة للأفكار والقيم والبنيات البشرية المتصارعة والثائرة؟
وإلى أي حد استطاعت باقي مؤسسات المجتمع إشباع حاجة المجتمع المتزايدة لمختلف أنواع القيم الدينية والاجتماعية والمعرفية..؟
تساؤلات أجابت الدراسة عنها بتلمس تفاصيلها وجزئياتها في المدرسة الغربية بمقاربتين تعتمدان منهجين مختلفين في المنطلق والتوجه والنتائج، وفي المدرسة الإسلامية باعتماد منهج يزاوج بين الرؤية المقاصدية والدراسة التجريبية الميدانية.
ونظرا لتعقد الظاهرة الاجتماعية وتشعبها، وتداخل العلاقات بين مكوناتها وعناصرها، وتباين الحقائق المرتبطة بأجزائها، وصعوبة رصدها باعتماد الآليات والطرق المعتمدة في رصد ودراسة الظواهر الطبيعية للاختلافات الجوهرية بينهما على مستوى الطبيعة والوضوح والثبات والاستقرار، عمدت الدراسة على تجاوز النموذج التجريبي بمفهومه الوضعي، واعتماد مختلف الأساليب والطرق التي توصل للمعرفة مهما اختلف نظامها الاستدلالي، وخطواتها المنهجية شريطة ملاءمتها مع طبيعة وأهداف موضوع الدراسة وأبعادها، حيث جمعت الدراسة بين المنهج الوضعي الذي يلتزم نفس الأدوات المعتمدة في الدراسات الاجتماعية دون الالتزام بمقولاتها المنهجية وتصوراتها ومفاهيمها الفلسفية، والمرجعي الذي يفرض تحديد المنطلق المرجعي العقدي الذي تتأسس عليه الرؤية والمنهج في دراسة الموضوعات الاجتماعية والإنسانية، والغائي الذي الذي يبحث فيما ينبغي أن يكون، لأن المعلومات المستخلصة من الدراسات المنجزة ينبغي أن تستخدم لخدمة المجتمع ومؤسساته من خلال توجيه سوك الفرد والمجتمع وضبط علاقتهم في إطار تشترك فيه مختلف هيئات وفئات ومكونات المجتمع، ولعل هذا ما تضمنته تصريحات ومواقف الكثير من رواد ومؤسسي علم الاجتماع بمدارسه المختلفة، بل لم يظهر علم الاجتماع إلا لممارسة وظيفته الإصلاحية في واقع علاج بالمشكلات الاجتماعية والسياسية.
ثم القيمي وذلك باعتماد المناهج الاجتماعية في دراسة القضايا والظواهر الاجتماعية ليس كنظرية في المعرفة أو منظومة فكرية بل كخطوات تقنية وكمقدمة للوصول إلى معطيات تتلاءم مع روح القيم الإسلامية، وذلك من شأنه تجاوز إشكالية تدخل القيم في البحث الاجتماعي التي تتحرز من المدارس الاجتماعية، إذ لا يوجد شيء بديهي مسبق يؤثر في منهج الدراسة، بل الهدف هو توظيف تقنيات جديدة لاستقراء القيم الأسرية ومدى خدمتها للبنيات المجتمعية. خاصة وأن وظيفة علم الاجتماع الإصلاحية تفرض تجاوز عملية الوصف والتحليل للظاهرة الاجتماعية، إلى عملية التقويم للفعل والسلوك الاجتماعي انطلاقا من منظومة القيم المرجعية.
إن طبيعة الإنسان والمجتمع، وترابط الظواهر والقضايا والعلاقات الاجتماعية يجعل من دراسة الظاهرة الاجتماعية أمرا معقد، ويستدعي اعتماد نظرة متكاملة لفهم الظواهر الاجتماعية في مجالها الاجتماعي والثقافي، على أساس التفاعلات القائمة بينها، حتى تتكون صورة واضحة عن حقيقة المؤسسة المدروسة، ووظائفها وشبكة علاقاتها بأبعادها المتعددة وعلاقاتها المتشابكة في صورتها الكلية، وهو ما دفعني إلى اعتماد منهج ” يجمع بين الوضعية (ما هو كائن) والمعيارية ( ما ينبغي أن يكون) والقيمية ( ما يجب أن يكون) ” أي يجمع بين أدوات علم الاجتماع في دراسة المجتمع، والرؤية المقاصدية القائمة على الاستقراء لحقائق التنزيل ومتغيرات الواقع، لتوجيهه وضبطه وفق قيم وأحكام الشريعة ومبادئها، وتوجهاتها الكبرى، لتتحقق بذلك الوظيفة الإصلاحية لعلم الاجتماع، باعتماد رؤية واضحة تنطلق من مرجعية تتعالى عن التحيزات الإيديولوجية، وتلامس جوهر الموضوعية، وفق مقاربة تكاملية، تراعي الخطوات والآليات التقنية والنظرية المعتمدة في الدراسات النظرية والميدانية.