التواج يكتب.. اليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد،
فإنه لا يخلو مجتمع من المجتمعات من أفراد أو مجموعات من الناس يوجد فيهم نقص في أجسادهم أو حواسهم أو عقولهم أو إعاقة تمنعهم من التصرف بطلاقة داخل مجتمعاتهم. وكشف البحث الوطني الثاني حول الإعاقة الذي تم إنجازه خلال الفترة ما بين فاتح أبريل و30 يونيو 2014م، أن نسبة انتشار الإعاقة على المستوى الوطني وصلت إلى 6,8 في المئة سنة 2014م، ومن خلاله تبين أن 2 مليون و264 ألفا و672 شخصا يصرحون بأن لديهم إعاقة تختلف درجاتها.
وحرصا على الإحسان في القول والتعبير فإن أفضل ما تُعرّف به هذه الفئة من الناس، هو مصطلح ذوي الاحتياجات الخاصة، ولقد استخدم القرآن الكريم مصطلحات للدلالة على هذه الفئة، فمنها ما جاء صريحاً فسمي باسمه (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ)، النور، ومنها ما جاء كناية وعبر عنه بوصفه( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ) التوبة، أو(غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) النساء، (والضَّرَرُ النُّقْصَانُ سَوَاءٌ كَانَ بِالْعَمَى أَوِ الْعَرَجِ أَوِ الْمَرَضِ، أَوْ كَانَ بِسَبَبِ عَدَمِ الْأُهْبَةِ.) تفسير الرازي11/193
ودعا القرآن الكريم للمساواة في الحقوق بينهم وبين غيرهم من المتعافين من الناس، وجعل التقوى والإيمان هي أساس التفاضل، وليس الأشكال والألوان، وبَيَّنَ أن المصيبة في الدين أعظم من مصائب الأبدان، وأن ما أصاب ذوي الاحتياجات الخاصة فبقدر الله سبحانه، وبشّرهم بصبرهم على ما أصابهم بالأجر العظيم وبجنات النعيم، ولقد خَلَّد القرآن الكريم مواقف وقصصاً لأنبياء ورسل وصحابة من ذوي الاحتياجات الخاصة، كان لهم دور عظيم في خدمة الدين وتبليغ رسالة رب العالمين.
وقد نَعِمَ ذوو الاحتياجات الخاصة، في المجتمع الإسلامي بعيشة كريمة، حيث المودة والرحمة والتعاون والإخاء والعدالة والمساواة، كما كان لهم إسهام كبير في نصرة الدين ونشر العلم وتقديم الخير لأفراد المسلمين، و قد تَمَيَّز منهم الكثير وبرزوا في معظم المجالات، فمنهم القارئ والمفسر والمحدّث والفقيه والشاعر الأديب وغير ذلك.
ويمكن أن نميز في الدين بين نوعين من الخطاب في التعامل مع هذه الفئة :
أولا خطاب موجه إلى هذه الفئة:
وهو يهدف إلى تخفيف معاناتهم ، وتهوين مصابهم عليهم، وجعلهم يعيشون سعادة نفسية ينسجمون فيها مع إعاقتهم، ومن أهم عناصره:
1- أن المعاق أياً كانت إعاقته إنسان مبتلى، ومفهوم الابتلاء بالنسبة للمؤمن ليس مفهوماً سيئاً ، بل هو مفهوم إيجابي ،إذ المبتلى الصابر محبوب عند الله وأن الرضى بقضاء الله ، علامة على كمال إيمانه ، ومن صبر وفَّاه الله تعالى أجرَهُ يوم القيامة بغير حساب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( مَنْ أَذْهَبْتُ حَبِيبَتَيْهِ (أي عينيه) فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ لَمْ أَرْضَ لَهُ ثَوَابًا دُونَ الجَنَّةِ) صحيح سنن الترمذي.
2- أن المعاق مكلف يجري عليه الثواب والعقاب في سائر العبادات كالسليم المعافى، إلا أن الشارع رحمة به خفّف عنه ما لا يستطيعه من الأعمال كالجهاد وغيره. كما جعله كالمريض في أحكامه ورخص له في باب الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر الأبواب إلا أنه وُسِّعَ له أكثر لأن المرض عذر طارئ والإعاقة عذر دائم، ويلزم المعاقَ الإتيان بالفرائض على حسب استطاعته، فإن قدر على جميع العبادة بشروطها وواجباتها وجب عليه الإتيان بها تامة وإن قدر على بعضها سقط عنه القدر الذي عجز عنه ولزمه ما قدر عليه وإن عجز عن بعض الشروط سقطت عنه بالكلية.
3- أن يوقن أن هذا البلاء قدر ملازم له لا مفر منه، يتعايش مع ظروفه ويتكيف على حسب قدراته ويزاول حياته الطبيعية بكل ما يملك ويشارك الآخرين في بناء المجتمع ويكون قويا بالله ولا ينكفئ على نفسه وفي الحديث: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير). رواه مسلم.
4- أن يفكر في الإعاقة تفكيرا إيجابيا ويستثمر مواهبه الأخرى في تطوير قدراته ومنافسته للآخرين ولا يستسلم أمام نظرة المجتمع، بل يصابر ويجاهد ويسعى في كسب رزقه وخدمة أمته وهذا ينعكس على نفسيته بالراحة ويشعره بالثقة والمكانة والمنزلة الرفيعة.
5- ألا يكون مفرطا في الحساسية تجاه نظرة المجتمع له، فينزعج من كل قول يسمعه أو فعل يراه ،ومن أساء منهم فلا يلتفت إليه لأن إساءته وقلة أدبه ترجع إلى المسيء، وأفضل حل لهذه المشكلة أن يقطع التفكير نهائيا في هذه المسألة ويربى نفسه على عدم الاكتراث بكلام الناس وتصرفات المجتمع ويعزز ثقته بربه ثم بنفسه وقدراته..
ثانيا خطاب موجه إلى المجتمع :
ويتضمن مجموعة من الأسس التي يقوم عليها المجتمع المسلم في علاقته بذوي الاحتياجات الخاصة:
1- المودة والرحمة:
قال تعالى :{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} التوبة: 71-72. قال القرطبي : (أَيْ قُلُوبُهُمْ مُتَّحِدَةٌ فِي التَّوَادِّ وَالتَّحَابِّ وَالتَّعَاطُفِ.)جامع أحكام القرآن، 8/203. وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)صحيح مسلم باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم.
وقالتعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)} البلد. قال سيد قطب : (وكذلك التواصي بالمرحمة. فهو أمر زائد على المرحمة. إنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به، والتحاض عليه.) في ظلال القرآن/6/3913.
ولا شك أن أوْلَى من يحتاج للمرحمة والمودة هو أصحاب الاحتياجات الخاصة. ورى الترمذي عن أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ” أَبْغُونِي الضُّعَفَاءَ ، فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ “.صحيح سنن أبي داود، كتاب الجهاد.
2- التكافل والتعاون:
قالتعالى:{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} المائدة. الآية.3 يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: (هو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البرِّ والتقوى؛ أي: لِيُعِنْ بعضُكم بعضًا) جامع أحكام القرآن، 6/46 .
فالمعاق فينا يحتاج إلى أن يُعان قصد اندماجه في المجتمع، وتحصيله لما يمكن من العلوم والمهارات، وتقديمه على غيره في كثير من مرافق الحياة، وهي مسألة تخص الأفراد والمؤسسات.
3- الاحترام والتقدير بين أفراد المجتمع:
قال تعالى :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } الحجرات. الآية،11. قال سيد قطب : (إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدى القرآن مجتمع له أدب رفيع ، ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس . وهي من كرامة المجموع.) في ظلال القرآن ،6/499.
لقد ارتقى أجدادنا في حسن التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، وكانت لهم حساسية في طريقة ندائهم فيقولون مثلا: “البصير” لمن فقد بصره. ومن ثم فترك اللمز والغمز وإن كان حراما مع كل الناس، فإنه يزداد قبحا وشناعة في حق من ابتلوا بنقص في حواسهم وأبدانهم.
4- العدل والمساواة:
من الأمور التي يحتاجها أفراد المجتمع العدالة والمساواة لذا قال الله تعالى: {ووضع الميزان} قال سيد قطب: (ميزانُ الحقِّ، وضَعَهُ ثابتا راسخا مستقرا، وضَعَهُ لتقدير القيم، قيم الأشخاص والأحداث والأشياء، كي لا يختل تقويمها، ولا يضطرب وزنها، ولا تتبع الجهل والغرض والهوى.). في ظلال القرآن 7/97
وذوو الاحتياجات الخاصة يشعرون باطمئنان عندما يسود العدل بين أفراد المجتمع. وعندما توفر لهم الدولة حقوقهم كاملة، والتي منها أن يدمجوا حسب مواهبهم في العمل ضمن أسلاك الدولة وكذلك مؤسساتها الخاصة دون حجر ولا تنقيص.
5- إسماع صوتهم وتمثيلهم سواء في مؤسسات خاصة بهم أو في مؤسسات المجتمع. ولقد حظيت شريحة المعاقين باهتمام خاص في دستور المملكة وفي قوانينها الأخرى. وهكذا منع الدستور المغربي التمييز على أساس الإعاقة ، كما تضمن تصديره التزام المملكة بحظر ومكافحة كل أشكال التمييز بسبب الإعاقة. ونص الفصل 34 منه على أن تقوم السلطات العمومية بوضع وتفعيل سياسات موجهة إلى الأشخاص والفئات من ذوي الاحتياجات الخاصة. وتعزز كل ذلك بتخصيص وزارة تعنى بالأشخاص المعاقين. ولعلنا نحتاج إلى تظافر جهود المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية لتفعيل كل ذلك وترجمته إلى واقع معيش يسعد به ذوو الاحتياجات الخاصة وأسرهم.
وختاما فإن المسلمين بحاجة إلى تطوير ما بدأه الأجداد في حسن التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، والسعي لبلوغ مصاف الدول المتقدمة التي ينعم المعاق في ظلها بحقوق كثيرة، تكاد تفوق ما يحظى به المواطن السليم.
اطلع على رسائل الإصلاح السابقة: