التواج يكتب: النبي الإنسان صلى الله عليه وسلم

تستوقفنا ذكرى مولد نبي الإنسانية كل عام، وتَساءلنا جميعا في كل مرة كيف هي علاقتنا به وبسنته ومنهجه أفرادا وجماعات، وتلك مسؤولية كل مسلم  ومسلمة، كما تَساءلنا كذلك عن ما قمنا به اتجاهه لنقدمه للناس حتى يعرفوه حق المعرفة، وتلك مسؤولية العلماء والدعاة والمفكرين والمبدعين والمؤسسات العلمية والدعوية الرسمية وغير الرسمية.

يقول عالم السير الإمام ابن حزم الأندلسي: (فإن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة،  وتشهد له بأنه رسول الله حقا،  فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى)(الملل والنحل، ج 2 ص90).

إن من أهم مقاصد دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم التعرف على الصورة المشرقة للإنسان الذي يمارس إنسانيته بكل أبعادها،  ويتفاعل مع الواقع بكل معطياته،  وهو في كل أحواله لم ينسلخ من بشريته، ولم يتجرد منها، بل عاش المشاعر كلها من خوف ورجاء، وفرح وحزن، وغضب ورضى،   وانتصار وهزيمة.

وفي كل تلك الأحوال كان على نهج واحد من الاستقامة والعدل والخلق والكريم، بما يشهد له كل منصف أنه أعظم إنسان.

هذا الإنسان النموذج الذي تحتاجه البشرية الحائرة اليوم،  ليهديها إلى الدين القويم،  ويقودها إلى الله برفق ولين ورحمة، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (107).

– علمنا النبي الإنسان في علاقته بربه أن الدين  مصدر سعادة وسرور  وطمأنينة،  وليس سبب شقاء وتعاسة واضطراب، وأسعد الأوقات هي التي كان يخلو فيها لربه، يجد لذته ومتعته في طاعة ربه، قال عبد الرحمان عزام: ( فقد كان يجد في العبادة قرة عينه،  وطمأنينة نفسه ….. وإنما الذي يلفت النظر في حياة بطل الأبطال،  هو ذلك الجمع الغريب بين النسك الذي يبلغ أرقى مراتب التعبد،  وبين القيام على أمور الدنيا التي كان يعيش فيها بكده …،  وهو في كل ذلك يؤدي عَمَله اليَومي،  وبين هذه الهمُوم والمشَاغل يتجَلى محمدٌ الناسِك العَابد الذي هو أعظَم انقطَاعاً إلى الله واتصَالاً به ممن انقطعوا إليه في رؤوس الجبَال،  ذلك الجمع بين الدين والدنيا يجعل من بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم مثلا قائما بنفسه في تاريخ البشرية  منقطع النظير).

– وعلمنا النبي الإنسان حسن معاشرة الأهل والشفقة والرحمة بالأبناء، وَكَانَ يَقُولُ: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ،  وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي). (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ).

وأولى الناس بحسن المعاملة هم أقرب الناس للمسلم  من آباء وأمهات و زوجة وأبناء وأقارب، وذلك  دليل على حسن وصدق تدينه.

فعن هشام بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ ” قُلْتُ لِعَائِشَةَ:  مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: “مَا كَانَ إِلَّا بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، كَانَ يُفَلِّي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ،  وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ ” (السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ).

– وعلمنا النبي الإنسان أن الدعوة إلى هذا الدين العظيم تكون بالحكمة وبالحوار الهادئ، ولغة الحوار يجب أن تنسحب على الأفراد والجماعات، والمجتمعات، وبكل الوسائل  المشروعة،  وبأسلوب حضاري يعتمد على احترام الرأي الآخر،  وإيصال رسالتنا السمحة بأسلوب حواري مبني على فهم ووعي للآخر. 

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهراني المشركين رحمة لهم ولطفًا بهم،  ووقاية من سخط الله ونقمته،  فقد عصمهم الله من الاستئصال الجماعي به (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) الأنفال.

ولم يحمل النبي صلى الله عليه وسلم لأحد في نفسه كيدًا، ولم يُكِنّ له حقدًا، ورغم دعوته المجابة لم يرفع يده يطلب من ربه أن يلعن فلانًا ويطرده من رحاب فضله أو ينزل البلاء والنقم على الناس،  فدعوته ووجوده في ذاته رحمة للعالمين.

وفي الحديث قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ،  ادْعُ علَى المُشْرِكِينَ قالَ: إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا،  وإنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً.) (صحيح مسلم).

دعا قومه بالحسنى وترك لهم فرصة للتفكير والرد،  وفي الحديث أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،  قَالَ:  ” مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلامِ إِلا كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ،  وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ،  إِلا أَبَا بَكْرٍ مَا عَتَمَ حِينَ ذَكَرْتُهُ لَهُ،  مَا تَرَدَّدَ فِيهِ ” (البيهقي في الدلائل 2/164).

ولأنه رسول الإنسانية وجه رسائل لزعماء زمانه للدخول في الإسلام، وبالطرق الدبلوماسية كما يسمونها اليوم، فدعا كسرى ملك الفرس وكذلك هرقل زعيم الروم،  وغيرهم ممن كان لهم السيادة،  وكان الهدف إنقاذ البشرية من الضلال والجهل والشرك.
– وعلمنا النبي الإنسان أنه لا يرضى بالظلم لأحد مهما كان دينه،  وأنه حريص على العدل وإيصال الحقوق إلى أصحابها و الدفاع عنهم والوقوف معهم حتى ينالوها .

ومن ذلك قوله:   ” لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ،  وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ ” وَكَانَ سَبَبُ الْحِلْفِ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَتَظَالَمُ بِالْحَرَمِ،  فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جُدْعَانَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَدَعَاهُمْ إِلَى التَّحَالُفِ عَلَى التَّنَاصُرِ،  وَالْأَخْذِ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ،  فَأَجَابَهُمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَعْضُ الْقَبَائِلِ مِنْ قُرَيْشٍ. فَتَحَالَفُوا فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ،  فَسَمَّوْا ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ تَشْبِيهًا لَهُ بِحِلْفٍ كَانَ بِمَكَّةَ أَيَّامَ جُرْهُمٍ عَلَى التَّنَاصُفِ وَالْأَخْذِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ،  وَلِلْغَرِيبِ مِنَ الْقَاطِنِ)(سنن البيهقي).

– علمنا النبي الإنسان أن دين الإسلام دين التعايش بين الشعوب لا القطيعة والمفاصلة،  قال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }(13) الحجرات.

وفي صلح الحديبية قبل النبي صلى الله عليه وسلم بالشروط المجحفة في حق المسلمين رغم أنه كان في موقف قوة،  من أجل تحقيق السلم والأمن وضمان استمرار العلاقات الإنسانية والتجارية،  إذ بهذا الانفتاح ينتشر الإسلام ويعرفه الناس،  وذلك ما وقع حيث أسلم في سنتين من الصلح أضعاف ما أسلم من الناس منذ البعثة. 

ولذلك قال عليه الصلاة والسلام حقنا للدماء وسلامة للنفوس: (والذي نفسي بيده،  لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها  (أجبتهم إليها) (رواه البخاري). 

– وعلمنا النبي الإنسان أن الناس سواسية، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى،  فحارب العنصرية والعبودية والتفرقة على أساس العرق أو اللون.

فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  (ألا لا فضل لعربي على عجمي،  ولا لعجمي على عربي،  ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى،  إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) البيهقي والمنذري في الترغيب والترهيب،  (صححه الألباني).

يقول العلامة المختار السوسي رحمه الله: (إنني من الذين يرون المغرب جزء لا يتجزأ،  بل أرى جميع بلاد الإسلام كتلة واحدة متراصة من شمال إفريقيا إلى أندونيسيا،  لا يدين الإسلام الحق من يراها بعين الوطنية الضيقة،  التي هي من بقايا الإستعمار الغربي في المشرق،  بل لو شئت أقول –ويؤيدني ديني فيما أقول- إنني أرى الإنسانية أسرة واحدة،  لا فضل فيها لعربي على عجمي إلا بالتقوى)(سوس العالمة: المقدمة).

لقد علمنا النبي الإنسان السلوك القائم على احترام قيمة الإنسان وكرامته، مهما كان دينه ومعتقده ولونه وعِرقه، إنها دعوة عالمية للتعارف والتآخي العام. 

النبي الإنسان منة ونعمة منّ الله تعالى على المؤمنين -بل على الإنسانية كلها- ؛ حيث أراد الله تعالى أن يعيد للإنسانية حقيقتها،  وللحياة لذّتها، وللدنيا نورها، قال تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْـمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}التوبة: 128.

وقد كانت -ولا تزال وستظلّ- إنسانية الرسول الحبيب مثالاً يُحتذى، ونموذجًا يُقتدَى، فقد أبهرت إنسانيته العدو قبل الصديق، وشهد له الغريب قبل القريب بالعظمة والكمال.. فاللهم صل عليه وسلم تسليما كثيرا .

ذ خالد التواج

 

اطلع أيضا على: 

شيخي يكتب: كي لا نخطئ السبيل لمقاومة الانعزالية والتطرف

 

 

الموس يكتب: فاجعة مقتل الطفل عدنان.. الدروس والعبر

باخوش يكتب: الدخول المدرسي في زمن كورونا  ورهانات التطوير والتجويد
شيخي والموس يكتبان: استمرار رسالة المسجد في ظل جائحة كورونا

ابراهمي يكتب: على هامش التعاطي الإعلامي مع قضية “فقيه ملوسة”

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى