الموس يكتب: الاحتفاء بالمدرس في عيده العالمي، الواقع والآفاق

يحتفل العالم في الخامس من أكتوبر من كل سنة باليوم العالمي للمدرس، وهي مناسبة تقدم فيها الدول حصيلة عنايتها بالمدرسين، كما ترسل فيها رسائل التهنئة والعرفان من طرف القائمين بالشأن التعليمي إلى المدرسين والمدرسات. ونرى هذه المناسبة فرصة للنظر في حال المعلم في وطننا، وكيف يُنظر إليه من طرف الغير فنقول:

أولا: قداسة المهنة وأهميتها

إن التعليم والتربية مهمة الأنبياء عليهم السلام. فبالعلم ارتقى آدم وذريته من بعده إلى مرتبة الاستخلاف، وبه خضعت له الملائكة حين أمره الله  تعالى بأن يعلمهم ما لم يعلموه قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْاسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة: 31 – 33]. وجعل الحق سبحانه التربية والتعليم مهمة النبي الخاتم، وامتن بها على المؤمنين فقال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُومِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [آل عمران: 164]. وقام النبي عليه السلام بهذه المهمة أحسن قيام، وأخرج الله به أمة العرب من التشرذم والشقاق، إلى الوحدة والوفاق، ومن البداوة  والتخلف إلى الحضارة والرقي.  وأنشأ المسلمون حضارة عالمية قادت البشرية لسنوات طوال. وكان أساس ذلك العناية بالمعلم وإكرامه وتبويئه المكانة اللائقة به. فالمعلم في المنظومة الإسلامية في مرتبة الرسول. روى الدارمي في مسنده عن مَكْحُول قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ وَالنُّونَ فِي الْبَحْرِ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْخَيْرَ “.  ولخص أمير الشعراء أحمد شوقي هذه المكانة حين قال:

                      قم للمعلم ووفه التبجيلا-*-*-كاد المعلم أن يكون رسولا

ولم يكن الاشتغال بالتعليم قاصرا على الرجال  فقط؛ بل انخرطت فيه النساء أيضا. حكى ابن حزم في كتابه «طوق الحمامة في الألفة والايلاف” أن النساء في الأندلس كن يعملن في مهن متعددة، منها الطب والدلالة والتعليم والصنائع كالغزل والنسيج، وقد ذكر فيه أنه تعلم عليهن في صغره.

ثانيا: العناية بالمعلم وإكرامه

إن هذه المهنة النبيلة تحتاج إلى عناية من طرف المجتمع، وإلى احتفال وترحيب من طرف مؤسساته. وإن معاول الهدم في الأمة تنطلق من بخس المعلم فضله، ومن التنقيص منه ومن مهنته.  لقد كان المغاربة عبر التاريخ، والمسلمون عامة يجتهدون في توفير الحاجيات الأساسية للمعلم، وفي توقيره واحترامه، فلا يجرؤ الفرد على التنقيص منه. وإن الجائحة الحالية قد أبانت عن تضحيات جسيمة من طرف رجل التعليم، وعن نكران للذات قل مثيله، وهي دون شك تحتاج إلى تثمين من طرف القائمين على الشأن التعليمي ببلادنا.

وألف علماء الاسلام في مكانة المعلم، وفي أن الطالب لا يستفيد من مُعلمه إلا باحترامه وتقديره ومحبته.  ومما قاله ابن جماعه في الآداب اللازمة مع المعلم: “أن يعرف له حقه، ولا ينسى له فضله…أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه أو سوء خلق، ولا يصده ذلك عن ملازمته ……. ويتأول أفعاله التي يظهر أن الصواب خلافها…” فأين نحن اليوم من هذه الآداب الرفيعة، والتي لا تعني كمال المعلم وتنزهه عن الخطأ، ولكنها تكشف الحرص على التعلم بإبقاء مكانة المعلم مرتفعة.

ثالثا:  تقدير المعلم لشرف مهنته ونبل رسالته

ولابد أيضا من مصارحة رجل التعليم بجلال مهنته، وخطر تفريطه فيها.. قال ابن أبي زيد القيرواني في رسالته: ” واعلم أن أولى ما عني به الناصحون ورغب في أجره الراغبون، ايصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين ليرسخ فيهم “.

  وحري بالمعلم أن يكون قدوة في قوله وفعله ومظهره، عند حسن الظن الناس به، فلا يدنس مقامه برعونات السلوك والأخلاق، ولا يسمح لنفسه بالسقوط لأنه إمام يأتم الناس به، وإن حصل بعض ذلك فلينهض سريعا، ويستغفر الله عما قصر فيه.  قال الله عز وجل: {ومَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

وإن القدوة لا يكفي بها مجرد الكلام بل تحتاج إلى ممارسة صادقة. فالعلم ليس مجرد نصوص تحفظ ولكنه تطبيق عملي وارتقاء رواحي، يجعل النصوص أشكالا تتحرك وأشخاصا تترجم إلى واقع عملي فتنساب في أذهان التلاميذ والتلميذات:

يا أيها المعلم غيـــــره -*-*-هلا لنفسك كان ذا التعليـم

تعيب خلقا وتأتي مثله-*-*-عار عليك إذا فعلت عظيـــم

   وإن المعلم وهو يجتهد في أداء رسالته، ومتابعة تلاميذه خطوة خطوة لا يغفل عن الزيادة في العلم والنظر المتجدد فيه، وتطوير مهاراته بما يناسب الزمان ومتطلبات العصر. وقد عد ابن جماعة الأدب العاشر من أدب المعلم  هو:  ” دوام الحرص على الازدياد بملازمة الجد والاجتهاد، والمواظبة على الوظائف والأوراد من العبادة والأشغال، قراءة وإقراء ومطالعة وفكرا وتعليقا وتصنيفا وبحثا”. وقد أكد وزير التربية الوطنية في رسالته السنة الماضية للمدرسين ما جاء في القانون الإطار من ضرورة مواكبة المدرسين وتمكينهم من “تكوين أساس ومستمر متين، في سبيل تعزيز قدراتهم التدبيرية والمهنية، والارتقاء بوضعيتهم الاجتماعية” وهو ما ينبغي الإسراع به خاصة في ظل الجائحة والحاجة إلى إرساء تعليم رقمي فعال.  

رابعا:  الأسرة والإعلام وتحبيب المعلم للأبناء

  إن من أسباب انهيار المنظومة التعليمية عندنا رغم محاولات الإصلاح المتكررة توجيه السهام المتعددة إلى المعلم. فالأسرة لا تستشعر خطورة دور المعلم، وفي بعض الأحيان تنتقص منه أمام الأبناء فيسقط في أعينهم. أما الشارع والمجتمع والإعلام فكثيرا ما يتسامع الناس النكت، واختلاق الأكاذيب أحيانا في حق المعلم والإمام. وكم رأينا وسمعنا من التشهير ببعض الحالات المعزولة، وتعميمها على كل المعلمين ومربي الأبناء. ومع ذلك فهناك بعض الاستثناءات المحمودة، يقوم فيها الطالب وأسرته بإكرام المعلم، أو تقوم إدارة بعض المؤسسات بإقامة حفل تكريم للمتقاعدين ، وهي تحتاج النشر على نطاق واسع قصد التعميم والاقتداء.

 إن قيم الدين تدعو إلى إكرام المعلم، وإلى الستر عمن وقع في زلة أو خطأ بدل التشهير به أمام الناس. ومما يؤثر عن بعض السلف أنهم كانوا يسألون الله تعالى أن يكتم زلات مربيهم عنهم لئلا تسقط مكانتهم فيُحرموا من الانتفاع بعلمهم. ولعل المطلوب عند وصول شيء مما لا يليق إلى أسماع الآباء أن يتصلوا بالمعلم ويستفسروا عما وقع، وينصحوا بأدب النصيحة قبل التفكير في الانتصار للأبناء والانتقام من المعلم.  

وإن من واجب الوزارة الوصية على القطاع أن تحرص على إكرام المعلم، وإشراكه في القرارات المصيرية والمخططات الاستراتيجية، كما يجب عليها توفير الحد الأدنى من العيش الكريم له ولأسرته، خاصة معلمي القرى والجبال. وأن تقوم بالتثبت من الأراجيف والأكاذيب التي ينشرها من لا ذمة له انتقاما من أسرة التعليم، وإلا فإنه قد نصل إلى اليوم الذي يزهد فيه الناس من مهنة التعليم، و يُعمل فيه بالمثل الشعبي القائل “اللهم تخمال المجاري ولا تعليم الدراري” فتتعرض الأمة لانتكاسة لا تقوم لها قائمة.

ختاما نقول لكل مرابط على التعليم في مثل هذه الأزمنة تذكر قول الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُومِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105]، واصبر وصابر، واعلم أن الله تعالى لن يترك من عملك شيئا.

الدكتور الحسين الموس

عضو المكتب التنفيذي

لحركة ااتوحيد والإصلاح 

 

اطلع أيضا على: 

الموس يكتب: فاجعة مقتل الطفل عدنان.. الدروس والعبر

باخوش يكتب: الدخول المدرسي في زمن كورونا  ورهانات التطوير والتجويد
شيخي والموس يكتبان: استمرار رسالة المسجد في ظل جائحة كورونا

ابراهمي يكتب: على هامش التعاطي الإعلامي مع قضية “فقيه ملوسة”

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى