في مواجهة البطالة.. الحث على طلب الزرق

كشفت معطيات جديدة عن ارتفاع مهم في معدل البطالة، إذ انتقل من 12,9 في المائة إلى 13,7 خلال الفصل الأول من السنة الجارية، وذلك حسب ما كشفت عنه المعطيات الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط ضمن مذكرة إخبارية حول وضعية سوق الشغل، حيث برر ارتفاع معدل البطالة بتداعيات الجفاف، مبرزا تركز الأرقام الخاصة بفقدان مناصب الشغل في العالم القروي [جريدة هيسبريس].

وتتراوح أسباب الارتفاع في معدلات البطالة بين الجفاف المستمر منذ ست سنوات، وتأثر القطاع الزراعي الذي يُشغل النسبة الأكبر من اليد العاملة، إلى تواضع معدلات النمو الاقتصادي، ناهيك عن تعاظم حجم “اقتصاد الظل” والاعتماد على منهجية التصريح في جمع المعطيات حول سوق العمل، بدلاً من اللجوء إلى البيانات والأرقام الدقيقة، بحسب خبراء [جريدة الشرق].

 هناك سبب آخر لا يتم التنبه له وهو ديني اعتقادي في مفهوم الرزق في الإسلام وأنواعه، والحث على طلبه، والانتشار في الأرض طولا وعرضا لتحصيله، وابتغاء فضل الله عز وجل كيفما كان، وأينما يكون، واتخاذ الأسباب الكفيلة والمقتدر عليها لاستدراره، والحديث عن هذا الأمر يطول لكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

في مغربنا يتوجه الجميع إلى الوظيفة العمومية لأجل العمل والحصول على دخل قار يستطيع الموظف به أن يدفع صعوبات الحياة من مأكل ومشرب ومسكن وتطبيب ومركوب وغيرها من الضروريات، مع أن مناصب الوظيفة العمومية محدودة، والطلب عليها كبير بالنظر إلى عدد المتخرجين من الجامعات والمعاهد المغربية.

إن الرزق من الأمور التي تكفل به الله عز وجل لعباده، ولن يموت ابن آدم حتى يوفي رزقه في الدنيا، وهو مكتوب ومقدر له وهو لا يزال في بطن أمه، “فالرِّزْقُ ‌هُوَ قَدَرٌ، لا الضَّعْفُ يُنْقِصُهُ، وَلا يَزِيدُكَ فِيهِ حَوْلٌ” وهو ليس محصورا في المال فقط بل هو مفهوم شامل، يتناول المطر الذي ينزل من السماء وإنبات النبات مما ينفع الناس وغيره، والصحة والعافية، والأولاد والعلم المنتفع به وغيره مما لا يحصى، ﵟوَإِن تَعُدُّواْ ‌نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ ﵞ [النحل: 18]، ويتناول الحلال والحرام وهو «مَذْهَبُ الأَشَاعِرَةِ أَنَّ ‌الرِّزْقَ ‌هو مَا يُنْتَفُعُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ حلَالاً أَو حرَامًا وقَالَتِ المُعْتَزِلَةُ: لَا يَكُونُ الرّزقُ إِلا حَلَاَلاً» [الغيث الهامع شرح جمع الجوامع (ص758)]،  فكل ما خلقه الله تعالى في الأرض مما يملك فهو رزق للعباد في الجملة، بدلالة قوله تعالى:{خلق لكم ما في الأرض جميعا }[البقرة 2: 29] و«لأن الله سبحانه رازق جميع الخلق كما في الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة، وعلم بالحس والمشاهدة، وليس يوجد مخلوق من سائر الحيوانات بغير رزق: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]» [حاشية الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية (ص59)]

يقول أبو طالب المكي (تـ386هـ) :”والرزق مقسوم ومنه طالب ومنه مطلوب، ثم أنّ الرزق على وجهين؛ عن معان لا تحصى وبأسباب لا تعدّ ولا تضبط، فمن الرزق ما يأتي العبد بسكونه وقعوده فيكون ‌الرزق ‌هو الذي تحرك إليه ويأتيه، ومنه ما يأتي العبد بحركته وقيامه فيكون يتسبب إليه ويطلبه، والرزق فيهما واحد والرازق بهما واحد، الحكمة والقدرة في المتحرّك القائم وفي الساكن القاعد واحد، إلاّ إنّ الأحكام فيهما متفاوتة، ثم إنّ الأشياء كلها على ضربين: مسخّر لك ومسلّط عليك، فما سخر لك سلطت عليه وهو نعمة عليك وعليك الشكر عليه؛ وهذا مقام الشكر على معنى الرزق، وما سلط عليك فقد سخرت له أنت وهو بلاء عليك وعليك الصبر فيه؛ وهذا مقام الصبر عن معنى الابتلاء»[«قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد» (2/ 331)].

وقال قال الإمام ابن تيمية: “الأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدره الله وكتبه، فإن كان قد تقدم بأنه يرزق العبد بسعيه واكتسابه، ألهمه السعي والاكتساب، وذلك الذي قدره له بالاكتساب لا يحصل بدون الاكتساب، وما قدره له بغير اكتساب كموت مورثه يأتيه به بغير اكتساب”

قال الشاعر:

إن الأمور التي في اللوح قد كتبت…. إما أتتك وإما أنت آتيها

وقد أمر الله عز وجل بابتغاء الرزق والفضل منه، والانتشار في الأرض لتحصيل ذلك، فهو الرزاق ذو القوة المتين، قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت: 17]؛ فإن ابتغاء ‌الرزق ‌هو من الرجاء، وقال تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡما طَرِيّا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَة تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ‌وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} [النحل: 14] وقال عز من قائل: {رَّبُّكُمُ ٱلَّذِي يُزۡجِي لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ فِي ٱلۡبَحۡرِ ‌لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِكُمۡ رَحِيما} [الإسراء: 66] وقال عز وجل: {وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ‌لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ } [فاطر: 12] 

وقال أيضا: {ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡبَحۡرَ لِتَجۡرِيَ ٱلۡفُلۡكُ فِيهِ بِأَمۡرِهِۦ ‌وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ  وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰت لِّقَوۡم يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 12-13] وقال تعالى: {وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَن يُرۡسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَٰت وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَلِتَجۡرِيَ ٱلۡفُلۡكُ بِأَمۡرِهِۦ ‌وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} [الروم: 46]

يقول الإمام الطبري رحمه الله: “يقول تعالى ذكره للمشركين به: ربكم أيها القوم هو الذي يسير لكم السفن في البحر، فيحملكم فيها (‌لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) لتوصلوا بالركوب فيها إلى أماكن تجاراتكم ومطالبكم ومعايشكم، وتلتمسون من رزقه (إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) يقول: إن الله كان بكم رحيما حين أجرى لكم الفلك في البحر، تسهيلا منه بذلك عليكم التصرّف في طلب فضله في البلاد النائية التي لولا تسهيله ذلك لكم لصعب عليكم الوصول إليها»[«تفسير الطبري» (17/ 496 ط التربية والتراث)].

وتفيد الآيات طَلَبُ التِّجَارَةِ فِي الْبَحْرِ، قال الإمام الطبري في تفسيره [(20/ 450 ط التربية والتراث)]:«وقوله (‌لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يقول: لتطلبوا بركوبكم في هذه البحار في الفلك من معايشكم، ولتتصرفوا فيها في تجاراتكم، وتشكروا الله على تسخيره ذلك لكم، وما رزقكم منه من طيبات الرزق وفاخر الحلي»

وقال الماتريدي: «قوله تعالى: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‌‌» فيها: « تعليم الأسباب التي بها يوصل إلى قطع البحار والبراري من اتخاذ السفن والحمل عليها وغير ذلك»[«تفسير الماتريدي = تأويلات أهل السنة» (7/ 83)].

وقال أيضا: «وقوله: (‌لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) هذا يدل أن ما يصاب بالأسباب والمكاسب إنما هو فضل اللَّه؛ إذ قد تكتسب ولا يكون منه شيء، واللَّه أعلم» [«تفسير الماتريدي = تأويلات أهل السنة» (8/ 477)].

ولأجل أن يكون ابتغاء الفضل من الله وتحصيل أسبابه ميسورا على العباد، كان التسخير من الله للآيات الكونية من شمس وقمر، وليل ونهار، وبر وبحر، وسهل عليهم ما يعسر من أسباب معاشهم ومعادهم»

 وغيرها من الآيات،  قال تعالى: {وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيۡنِۖ فَمَحَوۡنَآ ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَة ‌لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَيۡء فَصَّلۡنَٰهُ تَفۡصِيلا} [الإسراء: 12] وقال عز وجل: {وَمِن رَّحۡمَتِهِۦ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ ‌وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} [القصص: 73] وقال أيضا: {وَلَقَدۡ مَكَّنَّٰكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا ‌مَعَٰيِشَۗ قَلِيلا مَّا تَشۡكُرُونَ} [الأعراف: 10]  {هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ ‌مِن ‌رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ } [الملك: 15] وقال: {وَجَعَلۡنَا ٱلنَّهَارَ ‌مَعَاشا } [النبأ: 11] 

قال الطبري رحمه الله: «يقول تعالى ذكره: ومن نعمته عليكم أيها الناس، مخالفته بين علامة الليل وعلامة النهار، بإظلامه علامة الليل، وإضاءته علامة النهار، لتسكنوا في هذا، وتتصرّفوا في ابتغاء رزق الله الذي قدره لكم بفضله في هذا»[«تفسير الطبري» (17/ 395 ط التربية والتراث)]

 وحقيقة التسخير كما قال الواحدي في الوجيز (ص583): «{وسخر لكم الليل} لتسكنوا فيه {والنهار} ‌لتبتغوا من فضله، ومعنى لكم في هذه الآية لأجلكم، ليس أنَّها مسخَّرة لنا هي مسخَّرةٌ لله سبحانه لأجلنا، ويجوز أنَّها مسخَّرة لنا لانتفاعنا بها على الوجه الذي نريد».

وقال الإمام الرازي رحمه الله في « مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير» (25/ 93): “أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه، بل يرى كل ذلك من فضل ربه، ولهذا قرن الابتغاء بالفضل في كثير من المواضع، منها قوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة: 10] وقوله: {ولتبتغوا من فضله} [النحل: 14]»

وتسخير الليل والنهار كما قال ابن عباس: “‌لتبتغوا بالنهار من فضله وتقوموا بطاعته وفرائضه، والليل لتسكنوا فيه، وجعل ذلك راحة لكم” وقال الكرماني: «وقوله تعالى: {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}: بالنهار، ولتستريحوا بالليل، ولم يذكره هاهنا وذكره في آية أخرى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10 – 11] {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73]؛ أي: رِزْقِه، وسمَّاه فضلًا لأن ما يُعطيه اللَّه العبدَ فضلٌ، ولا يجب للعبد على اللَّه شيء، وهو حجَّتنا على المعتزلة في مسألة وجوب الأصلح»[«التيسير في التفسير – أبو حفص النسفي» (9/ 380)]

إن تسخير الآيات الكونية ليتقلب فيها الإنسان بين ليل ونهار، ولينتقل من بلاد إلا بلاد برا وبحرا وجوا، إنما هو مجال للاعتبار، ومتسع للتفكير والنظر، وتجديد لشكر النعم التي أنعم الله بها على عباده حيث آتاهم من كل ما سألوه، قال تعالى: «{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34] قال ابن الأنباري: تقدير الآية وأتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه، لأنا لم نسأله شمسا ولا قمرا، ولا كثير من نعمة التي ابتدأنا بها».

د.يوسف الحزيمري

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى