كيف يتحول “النصر التكتيكي” إلى “هزيمة استراتيجية”؟ (تحليل)
“إسرائيل تخاطر باستبدال نصر تكتيكي بهزيمة استراتيجية”، هذا أخطر تحذير وجهه أعلى مسؤول عسكري في الإدارة الأمريكية ممثلا في وزير الدفاع لويد أوستن، لحكومة بنيامين نتنياهو.
للولايات المتحدة- التي تعتبر أقوى قوة عسكرية في العالم- تجارب قاسية في خوض حروب خاسرة بالرغم من حجم الدمار الهائل الذي أحدثته في فيتنام وأفغانستان والعراق، ولا يكاد حجم قتلاها يقارن مع الأعداد الضخمة من الضحايا في صفوف أعدائها، ومع ذلك خسرت حروبها الثلاثة رغم “انتصارات عسكرية” حققتها على الأرض. فالنصر الاستراتيجي لا يقاس بعدد القتلى والجرحى والأسرى في صفوف الأعداء، ولكن معروف منذ القدم، أنه كسر إرادة عدوك، إلى الدرجة التي ييأس فيها من تحقيق النصر عليك.
صراع الإرادة
عندما تجبر عدوك على الاستسلام دون أن تطلق رصاصة واحدة أو تسقط ضحية واحدة تكون حققت نصرا استراتيجيا، أما إن ظل عدوك يقاوم رغم فارق القوة، والفجوة في عدد الضحايا، فإن الحرب تصبح “معركة إرادات”، ومن يملك النفس الأطول، والقدرة على التحمل، ووحدة الجبهة الداخلية وعدم انقسامها هو من سيحقق النصر الاستراتيجي.
وعادة ما يكون لأصحاب الأرض الكلمة الأخيرة في أي صراع مع الاحتلال الأجنبي، لأن التمسك بالأرض هو الخيار الأخير لأي شعب، والتخلي عنه يعني الإبادة والتهجير والفناء كأمة واحدة، والذوبان في شعوب أخرى، أما الغزاة فسيعودون من حيث أتوا. وهنا يكمن تعقيد الصراع العربي الفلسطيني لأن كلا الطرفين في مواجهة الشتات إن خسر أحدهما “معركة الإرادة”.
وهذا ما يفسر إصرار إسرائيل على تهجير سكان غزة وإبادتهم، وهو المصير الذي ينتظر سكان الضفة الغربية والقدس الشرقية في مرحلة تالية، مع الإبقاء على أقلية عربة مسلوبة الإرادة، يمكن تذويبها أو على الأقل احتواؤها، بالشكل الذي لا تشكل تهديدا وجوديا على “دولتها”. لكن القتل الواسع والهمجي للمدنيين وخاصة الأطفال منهم، وبسقف مفتوح، يؤثر بشكل عميق في تحول قطاع من الرأي العام العالمي من التعاطف مع إسرائيل، إلى التنديد بجرائمها.
ويظهر ذلك في تصاعد المظاهرات في مدن العالم ضد “المجازر الإسرائيلية”، وتزايد انتقادات المنظمات الأممية لقتل الأطفال والنساء والصحافيين بشكل غير مسبوق من حيث المعدل اليومي والشهري، حتى بالمقارنة مع الحرب العالمية الأولى والثانية، بل وحتى خلال الاحتلال الأمريكي للعراق.
وتحرك آلاف المحامين والهيئات الحقوقية في العالم بدعم من عدة دول وزعماء دول وعلى رأسهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين في محكمة الجنايات الدولية، رغم أنها مازالت تفتقد للجرأة والحياد، خاصة وأن أغلب تمويلها يأتي من دول أوروبية وغربية داعمة لتل أبيب.
إن إسرائيل لا تخسر فقط معركة الرأي العام العالمي، ولكنها تخسر أيضا المعركة الأخلاقية، ورغم محاولتها بكل الطرق تشويه حركة حماس، إلا أن طريقة وداع الأسرى الإسرائيليين لعناصر الحركة بالكثير من الود والمحبة والاحترام، أكدت زيف تلك الاتهامات. واحتفاظ حركة حماس بورقة الأسرى العسكريين في إطار رؤيتها لنهاية الحرب “الكل مقابل الكل”، فإن ذلك قسم المجتمع الإسرائيلي بين مطالب بتحرير الأسرى ودفع الثمن بإطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين، وبين متشدد بضرورة استمرار الحرب والقصف حتى ولو أدى ذلك لمقتل الأسرى الإسرائيليين.
وبغض النظر عن الكفة التي ستميل إليها إسرائيل، إلا أن ذلك من شأنه أن يعمق الشرخ والانقسام بين أفراد مجتمعها حتى بعد انتهاء الحرب، ما سيضعفها أكثر، ويفقدها الهيبة والرهبة في محيطها الإقليمي، وبالتالي افتقادها لـ”قوة الردع”، وهو ما يمثل أخطر أنواع “الهزيمة الاستراتيجية”، لأنه سيجعلها تحت تهديد دائم وإمكانية تكرار سيناريو “7 أكتوبر 2023”.
فيتنام.. أول هزيمة استراتيجية لواشنطن
أحد أكثر الدروس التي تعلمتها الولايات في تاريخها عن الحروب التي “تنتصر فيها تكتيكيا وتخسرها استراتيجيا”، حرب فيتنام، والتي دخلتها في 1964 لقتال ثوار “الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام الشيوعية”، المعروفة بـ”فيت كونغ” والمدعومين من جيش فيتنام الشمالية بقيادة هوشي منه، بهدف منع تمدد الشيوعية إلى الجزء الجنوبي من البلاد، والتي كانت مقسمة إلى شطرين.
وألقت الولايات المتحدة بثقلها في هذه الحرب، منتشية بانتصارها في الحرب العالمية الثانية ضد قوات المحور بقيادة النازيين الألمان، وأيضا منعها الشيوعيين في كوريا الشمالية المدعومين من الصين والاتحاد السوفييتي من السيطرة على كوريا الجنوبية.
ورغم أن أعداد الجنود الأمريكيين في فيتنام كانت تتضاعف حتى بلغ إجمالي عدد الذين تم إرسالهم إلى الحرب منذ بدايتها في 1964 حتى نهايتها في 1973 نحو 2.7 مليون جندي، وفق موقع “ستريبز” الأمريكي، إلا أن ذلك لم يجبر مقاتلي “الفيت كونغ” على الاستسلام. استخدم الجيش الأمريكي أسلحة محرمة دوليا وقاذفات ثقيلة وقنابل ذات دمار واسع، وتسببت الحرب في مقتل أكثر من مليون فيتنامي، مقارنة بنحو 58 ألف أمريكي، بالإضافة إلى 304 آلاف جريح، وفق “ستريبز”.
ورغم أن خسائر الفيتناميين كانت أكبر بكثير من خسائر الأمريكيين بشريا وماديا، إلا أن الولايات المتحدة اضطرت لرمي المنشفة، والانسحاب من فيتنام بدل الاستمرار في حرب استنزاف بلا أفق للنصر، خاصة وأن الرأي العام الأمريكي بدأ ينقلب على حكومته، مع تزايد أعداد القتلى والنعوش القادمة من فيتنام.
ورغم ان واشنطن حاولت تشكيل أكبر جيش فيتنامي عميل، ضم الكثير من السجناء والمجرمين المفرج عنهم في إطار “فتنمة الحرب”، إلا أن هذا الجيش الذي، فاق تعداده مليون مسلح، انهار مع انسحاب آخر جندي أمريكي من البلاد.
أفغانستان.. واشنطن لم تتعلم الدرس
من المفارقات أن أقوى قوة عسكرية في العالم مدعومة بتحالف دولي وآخر محلي (تحالف الشمال) واجهت قوة متواضعة التسليح (حركة طالبان) واستطاعت إسقاط دولتها الناشئة في كابول وقندهار في فترة وجيزة عام 2001، لكنها بعد 20 عاما اضطر الجيش الأمريكي إلى الانسحاب.
وتكرر نفس المشهد في سايغون الفيتنامية بكابول الأفغانية، رحل الجيش الأمريكي تاركا المتعاونين معه معلقين على أطراف طائرة مروحية (فيتنام) أو طائرة نقل حربية (أفغانستان)، خوفا من انتقام الحكام الجدد.
فكما احتمى المقاتلون الشيوعيون في فيتنام الجنوبية بشبكات الأنفاق تحت الأرض من قنابل القاذفات الأمريكية الثقيلة، لجأ مقاتلو طالبان إلى الكهوف والمغارات في الجبال، التي طالما كانت قلاعا انهارت حولها عدة إمبراطوريات سواء الهندية أو البريطانية أو السوفييتية وأخيرا الأمريكية.
فالقتل العشوائي للمدنيين يجعل من الثوار في نظر شعوبهم “أبطالا للحرية”، ويوفر لهم ذلك الدعم اللوجيستي والبشري، وهذا الدرس الذي تعلمته واشنطن، ويرغب وزير الدفاع الأمريكي لتبليغه للإسرائيليين. فقتل الجيش الإسرائيلي لنحو 16 ألف فلسطيني، لن يقضي على حماس (وهذا الهدف الرئيسي الذي وضعه للحرب)، مثلما لم يقض الجيش الأمريكي على “الفيت كونغ” في فيتنام أو طالبان في أفغانستان.
بل ستجعل مجازر الجيش الإسرائيلي الشعب الفلسطيني يلتف أكثر حول حماس، وبدل القضاء عليها سيمنحها شرعية وشعبية أكبر، وهذه هي “الهزيمة الاستراتيجية”.
عن وكالة الاناضول