مقصد رعاية الموهوبين وتوجيه الكفاءات عند الشاطبي (2) – الحسين الموس

ثانيا وسائل تحقيق هذا المقصد حسب الشاطبي :

وإذا كان لمقصد توجيه الكفاءات ورعاية الموهوبين تلك الأهمية فإن رعايته، والسعي في تحقيقه، يقع على عاتق الأمة جمعاء. لقد وقع خلل كبير في واقعنا المعاصر  ألقى فيه الناس مسؤولية توفير حاجيات الأمة الأساسية على الدولة، وأهمل دور الأفراد ومؤسسات المجتمع المدني.  وكتب الدكتور الريسوني رسالة صغيرة سمّاها ” الأمة هي الأصل” بين فيه أن تضخيم دور الدولة ووظائفها انحراف وانحطاط سواء بالميزان الشرعي أو بالميزان السياسي[1].  وقد نبّه الشاطبي قبله إلى أن تحقيق الفروض الكفائية مسؤولية جماعية، تتطلب رعاية الموهوبين وتشجيعهم على المرابطة فيما ظهر عليهم من ميولات ومواهب فقال: ” إن الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم لا في الدنيا ولا في الآخرة … ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية … وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال فيظهر فيه وعليه ….”[2] . إن الإشراف على مقصد رعاية الموهوبين وتوجيه الكفايات يقع على  عاتق  أطراف متعددة يمكن ترتيبها كالآتي: الأسرة، الأساتذة ومؤسسات التربية والتكوين، أولوا الأمر ومؤسسات المجتمع المدني، ثم المعنيون بالكفاءة أو الموهبة أي طلبة العلم على اختلاف تخصصاتهم.

أولا: الأسرة والاكتشاف المبكر للموهوبين ورعايتهم وحسن توجيههم.

اهتم الشاطبي برعاية هذا المقصد وهو لازال بذرة لم تتميز بعد، حيث أطلق على هذه الفترة بسن ما قبل التعقل، وهي مرحلة عمرية يكون الطفل ألصق فيها بوالديه وقال :”  وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال فيظهر فيه وعليه ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يهيأ تلك التهيئة فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجم على ظاهره ما فطر عليه في أوليته….”[3]. فهذا النص من الشاطبي يؤكد أن المجهودا ينبغي أن يبذل من طرف الأسرة قبل سن التعقل، خاصة وأن جزءا كبيرا من هذه المرحلة يقضيها الولد في بيته مع والديه وإخوانه. وإذا كانت القابلية للتعلم، ولاكتساب الفنون والصنائع موجودة بالقوة عند كل طفل، فإن الذي يقوم باكتشافها إليها، وتوجيه الطفل إلى العناية بها هم أفراد الأسرة بدرجة أولى.

لقد حمّل علماء التربية المسلمين الأسرة هذه المسؤولية، وألزموها بها. قال الغزالي: ” اعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي رِيَاضَةِ الصِّبْيَانِ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ وَأَوْكَدِهَا والصبيان أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ وَقَلْبُهُ الطَّاهِرُ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ سَاذَجَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ كُلِّ نَقْشٍ وَصُورَةٍ، وَهُوَ قَابِلٌ لِكُلِّ مَا نُقِشَ، وَمَائِلٌ إِلَى كُلِّ مَا يُمَالُ بِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ، وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وشاركه في ثوابه أبوه وَكُلُّ مُعَلِّمٍ لَهُ وَمُؤَدِّبٍ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأُهْمِلَ إِهْمَالَ الْبَهَائِمِ، شَقِيَ وَهَلَكَ وَكَانَ الْوِزْرُ في رقبة القيم عليه والوالي له “[4] . وأكد الحاجة إلى رعاية ما ظهر عليه من علامات التميز الخلقي أو الابداعي فقال : “…..ثُمَّ مَهْمَا ظَهَرَ مِنَ الصَّبِيِّ خُلُقٌ جَمِيلٌ وَفِعْلٌ مَحْمُودٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَمَ عَلَيْهِ وَيُجَازَى عَلَيْهِ بِمَا يَفْرَحُ بِهِ وَيُمْدَحُ بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ…”[5] .

وأكد الحسن قايدة على عناية الشاطبي بإبراز دور الأسرة في رعاية الموهبة وتوجيه الكفايات فقال: ” فالتعليم والتعلم بهذا عملية واعية تستهدف استخراج ما أودعه الله في الطفل من قدرات ومهارات وذكاءات توجد في حالة الكمون، تنتظر من يقدح زنادها لتخرج وتتفتق؛ فالشاطبي يعتبر هذه الغرائز الفطرية ، والمطالب الإلهامية، كالأصل الذي تبنى عليه تفاصيل العلم والعمل، فهي عبارة عن برنامج جاهز للاشتغال، وإنما يحتاج الخبير الذي يعرف كيف يستعمله بما أوتي من حكمة وخبرة وتجربة”[6].

إن التسليم بدور الأسرة في رعاية هذا المقصد يقتضي أن يتلقى الآباء فنون التربية ورعاية المواهب من خلال دورات تكوينية قبل الزواج وبعده أيضا. وأن ينخرطوا بقوة في العناية بالأبناء، ون تكون حواسهم مرهفة قصد التقاط كل موهبة، أو ميل لكفاءة معينة تحتاجها الأمة، ثم إحاطتها بالتوجيه والتحفيز. ولقد أعطى العلماء المسلمون نماذج في العناية بالأبناء وحسن توجيههم وتحفيزهم، وإعطاء القدوة من أنفسهم في سد ثغرات الواجبات الكفائية[7].

ثانيا: المربون والأساتذة

رأى الحسن قايدة أن الشاطبي اهتم بسن ما بعد التعقل في التوجيه ورعاية الكفاءات، لأن الطفل في تلك المرحلة أصبح مهيأ تمام التهيئة للتخصص[8]. وعزز رأيه بقول الشاطبي: ” لا يأتي زمان التعقل، إلا وقد نجم على ظاهره ما فُطر عليه في أوليته، فترى واحدا قد تهيأ طلب العلم، وآخر لطلب الرياسة، وآخر للتصنع ببعض المهن”[9]. إن هذا النص الثمين يظهر سبقا عند الشاطبي في العناية بما يُطلق عليه في زماننا بمسالك التكوين المهني أو الحرفي، والتي يوجه لها التلاميذ ابتداء من سن التعقل أي الثالثة عشرة تقريبا، وهي نهاية التكوين الأساسي الإلزامي[10].

وألمح القرضاوي بدوره إلى مقصد رعاية الموهوبين وتوجيه الكفاءات من خلال استنباطه لقواعد التوجيه التربوي من الشاطبي، والتي تختلف حسب القدرات الذهنية والبدنية ، وحسب  الاستعدادات الفطرية والميول المهنية. كما  وضح أهمية رعاية جل الكفاءات التي تحتاجها الأمة فقال:” إنما الكلام هنا هو في فرض الكفاية الواجب على مجموع الأمة فيما يتعلق بالعلوم والصناعات التي تحتاج إلى تخصص، ويمكن أن ينجح فيها بعض الأفراد دون بعض، بل أن يبرز بعضهم ويتفوق، إذا وضع في المكان المناسب، واختير له ما يوافق مؤهلاته الفطرية. والشاطبي هنا يركز على ضرورة إقامة فروض الكفاية الواجبة على الأمة بإقامة القادرين على أدائها، وتهيئتهم للقيام بها على الوجه المرضي..”[11]

واعتمدت بعض الدول اليوم كالمغرب إطار مستشار التوجيه والتخطيط، حيث يُعين مستشارا لكل مجموعة مدارس، لكن الذي يلاحظ أنه يقوم فقط بالمهمة الادارية المتمثلة في تعريف التلاميذ والطلبة بالشعب، ومسالكها ومخارجها. ولعل المطلوب العناية برجل التعليم في كل المراحل وخاصة الأساسية ( إلى 16 سنة) وتزويده بالمهارات اللازمة التي تجعل منه المربي الحكيم، الذي لا يكتفي بالتعليم ، بل يتعداه إلى رعاية الكفاءات، والعناية بالمواهب، وحسن التنقيب عليها ورعايتها. ولقد نبه الشاطبي في كتاب الاجتهاد من الموافقات إلى أن مقام الاجتهاد يحصل فيه ما وصفه بالرباني أو المجتهد الحكيم الذي يُوجه ويُفتي كل فرد بما يناسب مؤهلاته وميولاته. ونرى أن ذلك لا ينبغي أن يقتصر على علماء الشريعة؛ بل يجب أن يتعداهم إلى كل مشتغل بالتربية والتعليم.

إن قدرة المعلم والمربي على رعاية هذا المقصد، تتطلب عناية الدولة بتكوين المربين، وتزويدهم بالمهارات والقيم والمبادئ التي تؤهلهم لمرتبة المربي الحكيم. ولن يتم ذلك فقط بالتكوين النظري، بل لابد أن يصاحبه ملازمة للقدوات ، وتدريب على أيديهم. : “مِنْ أَنْفَعِ طُرُقِ الْعِلْمِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى غَايَةِ التَّحَقُّقِ بِهِ: أَخْذُهُ عَنْ أَهْلِهِ الْمُتَحَقِّقِين بِهِ، عَلَى الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ”[12].  كما حصر أبو إسحاق صفات المربي الحكيم في ثلاثة أحدها العمل بما علم والثاني أن يكون رباه الشيوخ في ذلك العلم والثالث الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه .[13] إن الكشف المبكر عن المواهب، وإيقاظهم لما جُبلوا عليه وتفرّدوا به لن يقوى عليه إلا النخبة من أهل التربية، ممن لهم فراسة لا تخطئ، ومن الأمثلة على ذلك قصص بعض الأئمة مع تلامذتهم كأبي حنيفة النعمان مع أبي يوسف، وربيعة بن عبد الرحمان مع مالك وغيرهم.

وبحث الشاطبي ما سماه بتحقيق المناط الخاص، ورأى أن صاحبه يحتاج إلى نور من ربه يعرف به :” النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف، فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق”[14]. فقد يكون عند المكلف ميل لكفاءة معينة، أو موهبة خاصة، لكن صبره على أن تثمر قليل، وتحمله لمشاقها ضعيف، فلا يُوجه لها لأنها قد تفسد عليه دنياه وآخرته. واستدل الشاطبي لهذا التحقيق بأمثلة متعددة من السنة النبوية تتضمن توجيهات مختلفة للأفراد بحسب أحوالهم وقدراتهم ( نصيحة  النبي عليه السلام لأبي ذر بترك الولاية ولو صغرت كالولاية على مال اليتيم )[15].

إن مقصد الشاطبي من  تحقيق المناط الخاص النظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان، ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف، مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره. ونرى أن مراعاة الحظوظ لا ينبغي أن يقصر على الجانب السلبي ( الحظوظ والأهواء)، بل لابد من مراعاة أهمية الحظوظ كمقاصد تبعية في استنهاض همة الطالب، وتحفيزه على الانخراط الكامل فيما ظهر عليه من الميول، التي تخدم جانبا من جوانب الواجبات الكفائية. وهنا يبرز دور المربي الحكيم في حمل النفوس على ما يصلح لها، ويناسب استعدادها.

ورأى الشاطبي أن التكليف غير المنحتم – ولعله يريد به فروض الكفايات-  يحتاج إلى نظر أعمق عند المربين، يمكّنهم من مراعاة:  ” ما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص، دون شخص إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك، فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر”[16].

لقد أكّد الشاطبي على أهمية اختيار من يرعى المواهب ويحتضنها، وطالب القائمين على الشأن العام بالإلتفات إلى تلك الجهات وحسن توجيهها وقال: “.. ويتعين على الناظرين فيهم الإلتفات إلى تلك الجهات فيراعونهم بحسبها  ويراعونها إلى أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم ويعينونهم على القيام بها ويحرضونهم على الدوام فيها حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط ثم يخلى بينهم وبين أهلها فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من أهلها”[17]. إنها خطط وتخصصات وفنون  تنفع الأمة، وتحتاج إلى المربي الكفء الذي يُعين أصحابها، ويشجعهم على التخصص فيما ظهر فيهم من المؤهلات، والسعي لبلوغ المرتبة القصوى منها. وقد يكون من لوازم ذلك تكوين أقسام وشعب خاصة ببعض الموهوبين والمتفوقين، أو ببعض الكفاءات ( ولو كانت حرفية) تُمكن من إخراج الموهبة والكفاءة على أحسن الوجوه.[18] ويتم ذلك وفق برامج دقيقة نظرية وتطبيقية . وتذكر كتب التاريخ أن بعض الخلفاء المغرب والأندلس رتّبوا مدارس نتخصصة لتخريج الموظفين، وأخرى للأمراء وإدارة شؤون الدولة[19].

ثالثا: العلماء أولو الأمر وقادة المؤسسات المدنية والجمعيات الاجتماعية:

إذا تأكدت أهمية المربين في تحقيق مقصد رعاية الموهوبين وتوجيه الكفاءات، فإن التربية لا يختص بها المعلمون في المدارس؛ بل يشاركهم فيها العلماء وأئمة المساجد، والقائمون على المؤسسات الاجتماعية وجمعيات المجتمع المدني. إن الفرد يقضي جزءا من وقته في المسجد أو الكُتّاب، وجزء آخر في المراكز الثقافية والجمعيات، أو في فضاءات الترفيه والوقت الثالث، وهي كلها مؤسسات صالحة في زماننا للقيام على هذا المقصد وحسن رعايته وتحقيقه. 

 إن جمعيات المجتمع المدني التي تشتغل مع الشباب واليافعين، وتقيم لهم الأنشطة والرحلات الاستكشافية، والمخيمات الصيفية، يمكنها من خلال كل ذلك أن تكتشف المواهب، وأن ترعى الكفاءات، وتُسهم في تخريج القادة والزعماء. ويكون ذلك بتدريب المؤهلين على القيادة وتزويدهم بالمهارات اللازمة، وكذلك باحتضان بعض من يصلح للعمل الخيري الانساني. وقد يتجلى في تدريب من يصلح لفنون الجدل والمناظرة والرد على خصوم العقيدة بطريقة علمية دقيقة[20]….

ومن جهة أخرى فإن الشركات والمصانع والإدارت تضطلع حسب الشاطبي بمهمة تدريب الفرد فيما مال إليه، واستيعابه ليتمرن مع أهل تخصصه ممن سبقوه إلى الميدان. وفي ذلك يقول الشاطبي: “.. .. ثم يخلى بينهم وبين أهلها فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من أهلها”[21]. ومن ثم فإنه يجب على الدول أن تضع خُططا لما يُسمى بالتكوين المهني، وأن يتم ذلك من خلال مد الجسور مع الشركات والمصانع وإلزامها بتدريب نسبة معينة من الطلبة حسب إمكانياتها، مع إمكانية إدماجهم في العمل لاحقا. ثم إن دور هذه المؤسسات ينبغي أن يكون جادا، وألا يقتصر على إطلاع المتدرب على طريقة العمل؛ بل ينبغي أن يشمل التكليف بأمور محددة، وإنجاز أعمال في صلب التخصص تحت إشراف الخبراء.

لقد كان للشاطبي نظر شمولي فيما يجب الاهتمام به من التخصصات والكفاءات، وأورد أمثلة صالحة لزمانه باعتبارها أصول الخدمات التي تحتاجها الأمة كالعرافة والنقابة[22] والجندية والإمامة. ولا شك أن واقعنا المعاصر أفرز تخصصات جديدة لم تكن من قبل، وظهرت أعمال ومهن تحتاجها الأمة وتعتبر من فروض الكفايات كالمهن الطبية وشبه الطبية، وبعض الصنائع المبتكرة وغيرها من فنون الإدارة والإعلام والاتصال والتواصل. ويجمع ذلك القاعدة الذهبية التي قال فيها الشاطبي: ” يتربّى لكل فعل هو فرض كفاية قوم”[23]. ومن ثم فإن تحقيق الكفاية في كل ذلك يتطلب جردا أوليا له، ثم وضع مسالك محددة توصل إلى تحقيق الكفاية منه، وتطويره وفق المستجدات والتطورات العلمية.

رابعا: الطلبة والمرشحون لتغطية الفروض الكفائية

وتُلقى على عاتق الشاب الذي وصل مرحلة البلوغ والرشد، والذي حدّد اختياراته وميولاته مسؤولية البروز فيما نذر نفسه له، والاجتهاد للتمكن منه وتقديم خدمة لنفسه ولأمته في ذلك. لقد حمّل الشاطبي من خلال نظريته  في التوجيه وسد حاجيات الأمة الطلبة أنفسهم، حيث رأى أنه ينبغي أن يتوجه كل منهم إلى طلب ما هو مهيء له ومناسب لاستعداده، وما يرى نفسه أنه سيبرز فيه على أقرانه ويقدم به نفعا لأمته [24]. كما رأى الحسن قايدة في كتابه التعليم الفعال عند الشاطبي  أنه : ” عندما يصل الطالب إلى هذه المرتبة؛ تكون وجهته قد حددت، وخطته قد رسمت، فإنه يتعين عليه قبل غيره أن يستشعر مسؤولية إنهاض ما نهض فيه ، وإتمام ما فطر عليه.[25] وهو ما عبر عنه الشاطبي بقوله : ” فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهض فيه ” [26]. أي أن الطالب نفسه يكابد ويجتهد ويرعى ما ظهر فيه من موهبة أو كفاءة، ويسعى كي يستولي على الملكة ويحيط بمبادئها وأصولها ويُصبح متخصصا فيها. ويكون الطالب في هذه المرحلة قد انتقل من الجدذع المشترك الذي كان يشارك فيه غيره إلى الدراسة والتكوين المتخصص.

خاتمة:

تنبهت الحضارة الغربية في عصرنا  إلى أهمية هذا المقصد وراكمت فيه كسبا مهما، هو الذي يوجه اليوم كبريات المدارس والمعاهد، ويُسهم في إعداد القادة والكفاءات. لقد فقه الغرب المصالح المادية التي يحتاجها الانسان، وتحقق فيه قوله تعالى ” {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا.  انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 20، 21] إن تفعيل أمتنا لهذا المقصد، بالضوابط الشرعية التي وضعها الشاطبي، وبالقيم التربوية التي يقوم عليها كفيل بتحقيق نهضة شاملة لأوطاننا، بسبب ارتكازه على البعد الغيبي والمسؤولية الايمانية في تحقيق الواجبات الكفائية.

لقد خلص هذا البحث إلى أمور محددة نجملها في الآتي:

أولا: مقصد رعاية الموهوبين وتوجيه الكفاءات نما وترعرع في البيئة الاسلامية، وكان الشاطبي رحمه الله ممن أبرزه وجعله أصلا لحفظ كثير من المصالح التي تحتاجها الأمة من خلال إيجاد وتكوين الكفاءات القادرة على سد حاجيات المجتمع.

ثانيا: توصل البحث إلى أن رعاية هذا المقصد حسب الشاطبي مهمة مشتركة بين الأسرة ( ما قبل التعقل وبعده) وبين المربي في المؤسسات التعليمية وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني، وكذلك قادة الدولة المسلمة والقائمين على الشأن التعليمي والتربوي.

ثالثا: تأكد من خلال هذا البحث عناية الشاطبي بالقائم على رعاية هذا المقصد، وبضرورة أن يكون مربيا حكيما، قدوة للطالب وللمتلقي، ولاشك أن هذا الأمر يحتاج إلى إعادة النظر في مؤسسات تكوين المربين، وفي تمكين الآباء والأمهات من المهارات والقيم التي تعينهم على حسن رعاية المواهب وتوجيه الكفاءات.

رابعا :  الفرد حسب الشاطبي مسؤول عن رعاية كفاءته، وعن الاجتهاد في تحقيق ما يستطيعه من ذلك. وهذا الأمر يحتاج إلى فهم مقصد الشارع في إخراج المكلف عن داعية هواه، بحيث لا يكتفي بالحظوظ العاجلة فيما يأتي بل ينظر إلى مصالح أمته وفيما نذر له نفسه من الفروض الكفائية، ويسعى للتبريز فيها.

الحسين الموس عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح

 

المراجع والمصادر :

بالإضافة إلى القرآن الكريم وتفاسيره، وكتب السنة وشروحها من موقع الشاملة، وكذلك المواقع الإلكترونية لبعض المجلات المتخصصة فقد اعتمد البحث على المصادر والمراجع التالية:

  • الأمة هي الأصل، أحمد الريسوني، سلسلة اخترت لكم 6 ، مطبعة طوب بريس، سنة 2000 م.
  • التربية عند الشاطبي، القرضاوي، سلسلة محاضرات قيمة للقرضاوي، دار الصحوة ودار الوفاء، ط1 ، 1415 هـ موافق 1994 م .
  • خصائص التعليم الفعال عند أبي إسحاق الشاطبي تأصيل الرؤية وتجديد النظر، الحسن فايدة، نشر المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بوجدة، سلسلة بحوث تربوية محكمة 1، مكتبة قرطبة وجدة، ط 2016.
  • كتاب الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي، تحقيق وتعليق الحسين أيت سعيد، مراجعة وتنسيق محمد أولاد عتو، منشورات البشير بنعطية، فاس ، المغرب، ط 1، 1438 هـ موافق 2017 م .
  • الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي، شرحه وخرّج أحاديثه الشيخ عبد الله دراز، دار الكتب العليمة، بيروت ، لبنان ط 3 ، 1424 هـ موافق 2003 م .
  • فتاوى الإمام الشاطبي، تحقيق وتقديم محمد أبو الأجفان، مكتبة العبيكات،ط 4، 2001 هـ.
  • إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط1، 2005.
  • لفتة الكبد في نصيحة الولد، ابن الجوزي، تقديم مروان قباني، المكتب الإسلامي، ط3، 1988.

***

[1] الأمة هي الأصل، الريسوني، ص 9 .

[2]  الموافقات ، الشاطبي، المجلد الأول، ج1، ص 129.

[3]  الموافقات، الشاطبي، المجلد الأول، ج 1، ص 129.

[4]  إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، ج 3 ، ص 72.

[5] إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، ج 3 ، ص 48.

[6] خصائص التعلم الفعال عند أبي إسحاق الشاطبي، الحسن قايدة، ص 151.

[7]  من الأمثلة على ذلك أبو الفرج بن الجوزي الذي ألف كتاب ” لفتة الكبد في نصيحة الولد”.

[8]  خصائص التعلم الفعال عند أبي إسحاق الشاطبي ، الحسن قايدة، ص 154.

[9]  الموافقات، الشاطبي، المجلد الأول، ج1، ص 128 .

[10]  في المغرب التعليم الأساسي يتكون من 9 سنوات، ستة للابتدائي من 6 سنوات إلى اثنى عشرة سنة، وثلاثة للإعدادي من 12 سنة إلى 15 سنة.

[11]  التربية عند الشاطبي، القرضاوي، ص 28

[12]  الموافقات، الشاطبي، المجلد الأول ، ج1، ص 64 .

[13]  المقاصد العليا للتربية وتربويات الإمام الشاطبي، د محمد الصاوي، مجلة المعرفة، ،  7/2/2009.

[14]  الموافقات، الشاطبي، المجلد الثاني، ج2، ص 70-71.

[15]  سبق تخريج الحديث.

[16]  الموافقات، الشطبي، المجلد لاثاني، ج2، ص 70-71

[17]  الموافقات، الشاطبي، المجلد الأول، ج 1، ص 129.

[18]  التربية عند الشاطبي، القرضاوي، ص 21 .

[19]  أنظر الحلل الموشية، مؤلف مجهول.

[20]  أورد الشاطبي في الموافقات مناظرة بين عالمين حول جواز حصور مجلس سلطان مبتدع لمناظرة بعض المبتدعة مما قال فيها : حكى عياض في المدارك أن عضد الدولة فنا خسرو الديلمي بعث إلى أبي بكر ابن مجاهد والقاضي ابن الطيب ليحضرا مجلسه لمناظرة المعتزلة فلما وصل كتابه إليهما قال الشيخ ابن مجاهد وبعض أصحابه هؤلاء قوم كفر فسقة لأن الديلم كانوا روافض لا يحل لنا أن نطأ بساطهم ولبس غرض الملك من هذا إلا أن يقال أن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم ولو كان خالصا لله لنهضت قال القاضي ابن الطيب فقلت لهم كذا قال المحاسب وفلان ومن في عصرهم إن المأمون فاسق لا يحضر مجلسه حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس وجرى عليه ما عرف ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر وتبين له ما هم عليه بالحجة وأنت أيضا أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجرى على الفقهاء ما جرى على أحمد ويقولوا بخلق القرآن ونفي الرؤية وها أنا خارج إن لم تخرج فقال الشيخ إذ شرح الله صدرك لهذا فاخرج. وفي زماننا ظهرت انحرافات عقدية مختلفة منها الإلحاد وشبهاته والتصير وآلياته، وينبغي أن تبذل جهود لايجاد الكفاءات التي تُفند الشبهات ، ولعل مثال الشيخ ديدات رحمه الله وقدراته العميقة في مناظرة النصارى خير دليل على هذا .

[21]  الموافقات، الشاطبي، المجلد الأول، ج 1، ص 129.

[22]  العريف والنقيب هم من تكون لديهم معرفة وكلمة داخل تجمع سكني ( قبيلة مثلا) ويكونون ممثلين لهم عند الوالي.

[23]  الموافقات، الشاطبي، المجلد الأول، ج1 ، ص 129- 130.

[24]  التربية عند الشاطبي، القرضاوي ، ص 30 .

[25]  التعليم الفعال عند الشاطبي، الحسن قايدة، ص 150

[26]  الموافقات، الشاطبي، المجلد الأول، ج 1، ص 129 .

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى