ذ محمد يتيم يكتب: حوار المشرق والمغرب بين سيد قطب ومالك بن نبي

 جيل كامل من الشباب تأطَّر في محاضن حركات إسلامية منذ سبعينيات الماضي، وخاصة في المغرب و فتحوا أعينهم في بيئة كانت تتنفس أجواء ثورية، كما عايشوا من خلال الزمالة التلمذية والطلابية تنظيمات يسارية رافضة. ونشأت على هامش الأحزاب الوطنية التقليدية ، حركات ماركسية لينيية ، فتنافست حركاتهم في إبرازخط الرافض للأنظمة العربية خاصة بعد نكسة 1967.

وقد تبنت بعض تلك الحركات تصورات جذرية انقلابية، متأثرة بما أنتجته أدبيات المحنة لدي حركة الإخوان في مصربعد صدامها مع نظام عبد الناصر الذي بطش بها، ونفس الشيء بالنسبة للأنظمة القومية العروبية في صورتها الجذرية. وكانت حركة الإخوان قد تعرضت لعمليات قمع مهول، نقله عدد ممن عايشوه من قبيل السيدة زينب الغزالي في كتابها ” أيام من حياتي ” وغيرها ، وصدرت فيها إبداعات فنية وأدبية على غرار قصيدة الشاعر المصري هاشم الرفاعي التي يقول فيها :
أبتاه ماذا قد يخطُّ بناني
والحبلُ والجلادُ ينتظراني
هذا الكتابُ إليكَ مِنْ زَنْزانَةٍ
مَقْرورَةٍ صَخْرِيَّةِ الجُدْرانِ
لَمْ تَبْقَ إلاَّ ليلةٌ أحْيا بِها
وأُحِسُّ أنَّ ظلامَها أكفاني
سَتَمُرُّ يا أبتاهُ لستُ أشكُّ
في هذا وتَحمِلُ بعدَها جُثماني

وعلى المستوي الفكري والتصوري، انطبع الإنتاج الفكري خلال هذه المحنة وبعدها لدى عدد من القيادات الفكربة والسياسية بعدد من المفاهيم من قبيل المفاصلة والعزلة الشعورية ، والحاجة لتجمع عضوى حركي إسلامي في مواحهة التجمع العصوي الحركي “الجاهلي “.

وعموما فقد انطبعت أدبيات المرحلة بتحديات الصمود في مواجهة عمليات القمع الوحشي ، فكان الإنتاج الفكري محكوما بثقافة الصمود في وجه عمليات القمع الوحشي، والزج بطبقات من أجيال مختلفة في سجون رهيببة مثل السجن بعد معاناة التعذيب في السجن الحربي وأبي زعبل وليمان طرة.. انتهت بالبعض من الضحايا إلى التساؤل : هل يمكن أن يكون هؤلاء الجلادون مسلمين ؟

فخرج من تحت عباءة الإخوان جماعات متطرفة من قبيل جماعات التفكير والهجرة . وقد حاول مرشد الإخوان حسين الهضيبي محاورتهم والوقوف في توجهاتهم التكفبيرية من خلال كتابه “دعاة لا قضاة “. وليس هذا فقط، بل بدأ بعض المفكرين المسلمين يشطبون تاريخا بكامله ويقسمون المجتمعات الإسلامية إلى فسطاطين: التجمع العضوي الحركي الإسلامي والتجمع العضوي الجاهلي .. !! ولعل النقاش الذي دار بين سيد قطب ومالك بن نبي حول إضافة كلمة متحضر إلى مقال تحت عنوان ” نحو مجتمع إسلامي متحضر ” معتبرا أن كلمة ” متحضر ” مجرد حشو ولغو، وأن” الإسلام هو الحضارة ” فهل يلزم من اعتبار أن الإسلام هو الحضارة أن المسلمين متحضرون، أو أنهم ليسوا عرضة التخلف وأنه من الممكن أن تكون هناكومجتمعات غير إسلامية أكثر حاضرا من المجتمعات الإسلامية.

وفي المغرب، وأقصد به ما أصبح يعرف بالدول المغاربية، ارتبط الوعي الإسلامي والتجديد الفكري الحضاري بالنضال من أجل الاستقلال ، كما أن رواد الفكر الإسلامي المغربي اصطدموا بنموذج آخر من الثقافة الغربية أي الثقافة الفرنسية ، وما تطرحه تلك الثقافة الفرنكفونية من تحديات خاصة وأنها وريث لتراث عصر النهضة وفلسفة الأنوار، وهو ما سنجد صداه واضحا عند رواد الفكر الإسلامي المغربي من قبيل علال الفاسي وبن الحسن الوزاني والطاهربن عاشور ومالك نبي وغيرهم .

لم يكتب لمالك بن نبي اللقاء بيد سيد قطب ، كما يبدو أن سيد قطب لم يكن يعرف مالك بن نبي وتراثه الفكري ،بدليل أنه أشار إليه بـ” مفكر جزائري “ـ ويبدو أن الأمر قد ينطبق على عدة مفكرين مغاربة آخرين . فلم يكن بين الرجلين التقاء و تفاعل مباشر بينهما، ولكن حدث بينهما حوار من بعيد، سجله سيد قطب رحمه الله في كتابه “معالم في الطريق” في فصل تحت عنوان ” الإسلام هو الحضارة “.

ويمكن القول إن الفرق بين الرجلين هو الفرق بين أديب ألمعي، ومفكر ملتزم أو بالتعبير المعاصر مفكر عضوي منخرط إلى النخاع في النضال من أجل ” استئناف الحياة الإسلامية على مستوى قطره أولا وعلى مستوى الأمة ثانيا،
وبين مناضل منشغل فكريا بظاهرة الاستعمار.. استعمار الأمة من موقع السعي لفهم الظاهرة الاستعمارية ، وتحليل التاريخ الإسلامي وتطوراته وصعوده وأفوله الحضاري، الذي قاده الى تحكم الغريزة بعد مرحلة الروح ومرحلة الفكرة من خلال استخدام أدوات ومصطلحات وتعريفات مقتبسة من علم الاجتماع الثقافي، والتحليل النفسي لسيجموند فرويد وفلسفة التاريخ وفلسفة الحضارة توينبي ..

وبصورة أخرى، لقد كان مالك بن نبي نموذجا للمثقف العضوي الذي له اطلاع واسع على تاريخ الغرب وفلسفته وعلى آخر ما توصلت له العلوم الإنسانية ، فنذر معرفته تلك للنضال من الزاوية الفكرية والثقافية من أجل فهم طبيعة الصراع بين الغرب والإسلام، وإبراز الطبيعة الحضارية والثقافية للمواجهة . بينما كان سيد قطب في موقع المناضل العضوي الذي يقف في الواجهة فوظف موهبته الأدبية في استنهاض شعور الأمة، وتعبئتها لمواجهة الأوضاع ” الجاهلية ” ولبناء تجمع عضوي حركي إسلامي في مواجهة تجمع عضوي حركي ” جاهلي ” .

ومن الطبيعي أن يبرز سوء فهم من جهة سيد قطب لمالك بن نبي وخاصة في نظرتهما للحضارة، أي بين تصور انطلق من تحليل تاريخي واجتماعي لعوامل تخلف المسلمين وتراجعهم الحضارة وبين تصور “ماهوي ” يعتبر أن الإسلام هو الحضارة، وهو تصور يفصل في التحليل بين الإسلام والمسلمين أو لنقل الإسلام النظري والإسلام كممارسة بشرية، في حين لا ينفصل الإسلام عن المسلمين وتاريخه، وإسلام المسلمين فيه لحظات مشرقة وفيه لحظات انحطاط وتراجع.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى