الإرتاج في الكلام، وذكر من أرتج عليه – يوسف الحزيمري

الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، وعلم سليمان منطق الطير والحيوان، والصلاة والسلام على من أوتي جوامع الكلم والقرآن، وعلى أصحابه من كانوا في البيان فرسان، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين بإحسان، وبعد:

فإن من خصائص الإنسان أن خصه الله بالكلام، وعلمه أسماء المسميات، فمنه من يتكلم بأبلغ لسان، ومنه عيي يتتعتع، ومنه أبكم حرم الكلام، والأصل فيه النطق والكلام والباقي عارض عليه.

وقد يطرأ للإنسان رغم ما أوتي من بلاغة وحسن منطق وبيان، أن يستغلق ويبكم عن الكلام، وهو ما يسمى لغة بالإرتاج؛ فما معناه لغة؟ وكيف تناوله أهل الأدب والأخبار؟.

‌‌(رتج) الراء والتاء والجيم أصل واحد، وهو يدل على إغلاق وضيق، من ذلك ‌أرتج على فلان في منطقه، وذلك إذا انغلق عليه الكلام. وهو من أرتجت الباب، أي أغلقته[1][1].

 (ومن الفعل تقول: قد أرتج على القارئ) بهمز الألف وكسر التاء وتخفيف الجيم: إذا انقطع عليه كلامه، أو استغلق عليه فلم يقدر على القراءة والكلام، ولم يدر ما تمامه، وهو مأخوذ من رتاج الباب، وهو غلقه الذي يغلق به، كأنه أطبق على القارئ وأغلق، كما يرتج الباب، أي يغلق[2].[2] فَكل بَاب رتاج فَإِذا أغلق قيل: قد ‌أُرتج، وَمن هَذَا قيل للرجل إِذا لم يحضرهُ منطق: قد ‌أرتج عَلَيْهِ، يَقُول: كَأَنَّهُ قد أُغلق عَلَيْهِ وَجه الْمنطق[3][3]، يراد أن القارئ قد أغلق عليه ما كان يقرؤه، وذلك إذا انقطع عليه كلام أو قراءة أو شعر يقرضه، فلم يدر ما تمامه[4].[4]

قال في الصحاح: وأُرْتِجَ على القارئ، على ما لم يُسَمَّ فاعله، إذا لم يَقدِر على القراءة كأنّه أُطْبِقَ عليه، كما يُرْتَجُ البابُ. وكذلك ارْتُتِجَ عليه. ولا تقل: ‌ارْتُجَّ عليه بالتشديد[5][5].

وَتقول الْعَامَّة: ‌ارتجَّ عَلَيْهِ بِالتَّشْدِيدِ، وَعَن بَعضهم أَن لَهُ وَجها، ومَعْنَاهُ وَقع فِي رجة وَهِي الِاخْتِلَاط[6][6].

ومنه: “استغلق الرجل”: إذا ‌ارتج عليه ولم يتكلم، يعني أنه انقطع كلامه[7][7]، واعتقل لسان فلان، إذا ‌ارتج عليه[8][8]، وتَبَهَّمَ عليه كَلامُه: ‌أُرْتِجَ[9][9]، ويقولون: تَبَكَّمَ عليه الكلامُ: أي ‌أُرْتِجَ عليه[10][10]، ورَجِيَ الرَّجُلُ يَرْجى رَجىً -مَقْصُوْرٌ-: أي انْقَطَعَ عن الكَلامِ.. ورُجِىَ على الرَّجُلِ: ‌أُرْتِجَ عليه[11][11]، واسْتَبْهَمَ عليه الكلام، أي استغلَقَ. وتَبَهَّمَ أيضاً، إذا ‌أُرْتِجَ عليه[12].[12]

وذكر “أبو هلال العسكري” في كتابه “الأوائل”: أن أول من ‌أرتج عليه في الخطبة عثمان (رضى الله عنه)، وذلك أنه: “لما بويع قام مقام رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-، فقال سلمان: اليوم ولد الشر، قال: فلما استوى فى أعلاه[أي المنبر]، نظر فى وجوه الناس، ووجم،  فأحف، وصلّى على رسول الله فأوجز، ثم قال: أيها الناس، إن اللذين تقدمانى، يعدان لهذا الموقف كلاما، وأنتم إلى إمام عادل، أحوج منكم إلى إمام قائل، وستأتيكم الخطبة على وجهها”[13][13].

قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله:” حَكَى المؤرِّخون عن عثمان كذبة عظيمة؛ أنّه صَعِدَ المِنْبَرَ فَأُرْتجَ عليه، فقال كلامًا منه: وأنتم إلى إمام فَعَّالٍ أَحْوَج منكم إلى إمام قَوَّالٍ، فيا لِله لقائل هذا وللعقول، إنّ أقَلَنَّا اليوم لا يُرْتَجُ عليه، فكيف عثمان؟ لا سيّما وأقوى أسباب الحَصْر في الخُطْبَة أنّه لا يدري ما يُرْضِي السّامعين ويستميل  قلوبهم؛ لأنّه يقصد الظهور عندهم. ومن كانت خطبته لله، فليس يُحصَر عن حَمْدٍ وصلاةٍ، وحَضً على فعلِ خيرٍ، وتحذيرٍ من شَرِّ أي شيء كان، ولم يخلق من يحصر إلّا من كان له غرض غير الحقِّ، فربّما أعانه عليه بالفصاحة فتنة، وربّما خَلَقَ اللهُ له العِيَّ في ذلك المقام”[14][14].

وقد وقع لابن العربي نفسه أن أرتج عليه في خطبة الجمعة، لكنه كما قال من كانت خطبته لله فتح عليه، وذلك أنه: “اتفق ذات يوم أن حضر الناس إلى الجمعة بالجامع الأعظم بإشبيلية، فتغيب الخطيب لعذر قاهر، فلم يكن بد من أن يقوم للصلاة قاضي البلد -وهو- إذ ذاك- أبو بكر بن العربي، وعندما قام ليخطب -وهو الخطيب المفوَّه- لم يجد حَرفاً من الخطبة فأرتج عليه، فقال: يا أيها الناس، قولوا ‌لا ‌إله ‌إلَاّ ‌الله، فقالوها، فقال روينا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: إِذَا قَالَ العَبْدُ ‌لَا ‌إلهَ ‌إلّاَ ‌الله اهْتَزَّ عَمُودٌ مِنْ نُورٍ … الحديث، ثم تلا آية الكرسي وقال: روينا عن عكرمة وابن عباس أنهما قالا:” العُرْوَةُ الوُثْقَى ‌لَا ‌إلهَ ‌إِلَاّ ‌الله، ثُمَّ قَرَأ” {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الآية، وقال: اذكروا الله يذكركم، فأقيمت الصلاة فصلى.

وما إن انتهى الناس من صلاتهم، حتى وقف الزنجاني وقال: يا أهل هذا المسجد، أعيدوا صلاتكم، ولكن أبا بكر بن الجد، قام على الأثر فردّ عليه وقال: يا أهل إشبيلية إن صلاتكم صحيحة، فخطبة إمامكم تضمنت آيات من كتاب الله، وجملاً من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأي كلام له بال أعظم من هذين، فانصرف الناس عن جمعة.[15][15]

ولا يبعد أن يرتج على الإنسان في منطقه، فإن ذلك وارد، فالحفظ خؤون، والذاكرة تبطء أحيانا وتضعف، ويحال بين المرء والمنطق بأسباب كثيرة، كهيبة المقام أو شدة الغضب والفرح، وقد ينسى في لحظة ما كان قد زوره من مقال لمناسبة ما، مالم يستعن بالكتاب، ولذلك كان “الشعبي” يقول: ” ‌الكتابة ‌قيد العلم”، ويقال: “العلم ‌صيد ‌والكتابة قيد”.

وجاء في كتب الأدب والأخبار والمحاضرات، نماذج ممن أرتج عليه في خطبة أو مقال، من ذلك ما جاء في “عيون الأخبار” في “كلام من ‌أرتجّ عليه”[16][16]، وفي العقد الفريد لا بن عبد ربه في “من ‌أرتج عليه في خطبته”[17][17]، وفي “عمدة الكتاب” لأبي جعفر النحاس في “باب ذكر من ‌أرتج عليه في الخطابة”.[18][18]

وفيما يلي بعض أخبار من أرتج عليه:

لما أتى يزيد بن أبي سفيان الشام واليا لأبي بكر رضي الله عنه، خطب فأرتج عليه، فعاد إلى الحمد لله فأرتج عليه، فعاد إلى الحمد لله ثم أرتج عليه، فقال: يا أهل الشّام، عسى الله أن يجعل من بعد عسر يسرا، ومن بعد عيّ بيانا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل. ثم نزل. فبلغ ذلك عمرو بن العاص فاستحسنه”[19][19].

وخطب معاوية بن أبي سفيان لما ولي، فحصر، فقال: أيها الناس، إني كنت أعددت مقالا أقوم به فيكم فحجبت عنه؛ فإن الله يحول بين المرء وقلبه؛ كما قال في كتابه؛ وأنتم إلى إمام عدل، أحوج منكم إلى إمام خطيب؛ وإني آمركم بما أمر الله به ورسوله، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه ورسوله، وأستغفر الله لي ولكم[20][20].

وارتج على عبد الله بن عامر بالبصرة يوم أضحى، فمكث ساعة ثم قال: والله ولا أجمع عليكم عيّا ولؤما، من أخذ شاة من السّوق فهي له وثمنها عليّ[21][21].

وارتج على خالد بن عبد الله القسريّ فقال: إنّ هذا الكلام يجيء أحيانا ويعزب أحيانا، وربما طلب فأبى وكوبر فعسا  ، فالتّأنّي لمجيّه، أيسر من التّعاطي لأبّيه؛ وقد يختلط من الجريء جنانه، وينقطع من الذّرب لسانه، فلا يبطره ذلك ولا يكسره؛ وسأعود إن شاء الله[22][22].

وصعد روح بن حاتم المنبر، فلما رأى جمع الناس حصر ، فقال: نكّسوا رؤوسكم، وغضّوا أبصاركم، فإنّ أوّل مركب صعب، وإذا يسّر الله فتح قفل تيسّر[23][23].

وصعد ثابت قطنة منبر سجستان، فقال: الحمد لله. ثم ‌أرتج عليه؛ فنزل وهو يقول:

فإن لا أكن فيهم خطيبا فإنني … بسيفي إذا جدّ الوغى لخطيب

فقيل له: لو قلتها فوق المنبر لكنت أخطب الناس.[24][24]

وقال سعيد بن سلم الباهلي صلى بنا الهادي صلاة الغداة فقرأ: ” عم يتساءلون ” فلما بلغ قوله تعالى: ” ألم نجعل الأرض مهادا ” ‌أرتج عليه، فرددها ولم يجسر أحد أن يفتح عليه لهيبته، وكان أهيب الناس، فعلم ذلك فقرأ: ” أليس منكم رجل رشيد ” ففتحنا عليه.[25][25]

قال المرتضى في أماليه: وجدت جماعة من أهل الأدب يستبعدون أن يرتج على إنسان في خطبة أو كلام قصد له، فينبعث منه في تلك الحال كلام هو أحسن مقصد إليه؛ وأبلغ ممّا ‌أرتج عليه دونه ويقولون: إنّ النسيان لا يكون إلا عن حيرة وضلالة؛ فكيف يجتمع معهما البراعة الثاقبة، والبلاغة المأثورة؛ مع حاجتهما إلى اجتماع الفكرة وحضور الذكر! وينسبون جميع ما يحكى من كلام مستحسن، ولفظ مستغرب عمّن حصر في خطبة أو في منطق إلى أنه موضوع مصنوع.

وليس الّذي استبعدوه وأنكروه ببعيد ولا منكر، لأن النسيان قد يخص شيئا دون شيء، ويتعلّق بجهة دون جهة، وهذا أمر متعارف، فلا ينكر أن ينسى الإنسان شيئا قصده وعزم على الكلام فيه، ويكون مع ذلك ذاكرا لغيره، متكلّما فيه بأبلغ الكلام وأحسنه، بل ربما كان الحصر والذّهاب عن القصد يحميان القريحة، ويوقدان الفكرة، ويبعثان على أحسن الكلام وأبرعه، ليكون ذلك هربا من العىّ وانتفاء من اللّكنة[26][26].

وفي كتب الفقه نجد الحديث عن الفتح على الإمام إذا أرتج عليه في القراءة، حيث يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: صَلَّى صَلاةً يَقرأُ فيها فالتَبَسَ عَلَيه، فلَمّا انصَرَفَ قال لأُبَىِّ بنِ كَعبٍ: “أصَلَّيتَ معنا؟ “. قال: نَعَم. قال: “‌فما ‌مَنَعَكَ ‌أن ‌تَفتَحَ ‌علىَّ؟ “[27][27]، وَالْفَتْحُ عَلَى الْإِمَامِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا ‌أُرْتِجَ عَلَيْهِ وَإِذَا غَيَّرَ قِرَاءَتَهُ[28][28]، جاء في بداية المجتهد لابن رشد:”وأما اختلافهم في الفتح على الإمام إذا ‌أرتج عليه، فإن مالكا، والشافعي، وأكثر العلماء أجازوا الفتح عليه، ومنع ذلك الكوفيون.

وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الآثار، وذلك ” أنه روي «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تردد في آية، فلما انصرف قال: أين أبي ألم يكن في القوم؟» أي يريد الفتح عليه. وروي عنه – عليه الصلاة والسلام – أنه قال: «لا يفتح على الإمام» والخلاف في ذلك في الصدر الأول، والمنع مشهور عن علي، والجواز عن ابن عمر مشهور[29][29].

فهذا بعض ما جاء في (الإرتاج في الكلام) عند أهل اللغة، وفي كتب الأخبار، وكتب الفقه، انتخبت لكم منه هذه الباقة، إمتاعا وإفادة للقارىء.

وختاما فإن الكلام نعمة من نعم الباري جل وعلا، خص به الإنسان من باقي المخلوقات، ومن ثم وجب شكر هذه النعمة، وجعلها في سبيل تحقيق أمانة الاستخلاف، وتحقيق قيم الإسلام من التعارف، وتداول العلم والمعرفة، وما مسألة (الإرتاج) إلا تذكير للإنسان أنه لا يملك أن يتكلم إلا بفضل الله وقدرته، فالشكر له تعالى عمّا منّ به وتفضل.

الهوامش:

[1] مقاييس اللغة (2/ 485)، و مجمل اللغة لابن فارس (ص417)

[2] إسفار الفصيح (2/ 767)

[3] غريب الحديث – أبو عبيد – ط الهندية (4/ 325)

[4] تصحيح الفصيح وشرحه (ص397)

[5] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (1/ 317)

[6] الفائق في غريب الحديث (2/ 35)

[7] تفسير الطبري جامع البيان – ط دار التربية والتراث (11/ 108)

[8] مجمل اللغة لابن فارس (ص618)

[9] المحيط في اللغة (4/ 12)

[10] المحيط في اللغة (6/ 286)

[11] المحيط في اللغة (7/ 174)

[12] الصحاح في اللغة والعلوم (ص431)

[13] الأوائل للعسكري (ص181)

[14] المسالك في شرح موطأ مالك (2/ 458)، قال محقق كتاب المسالك:” أصل الحكاية أخرجها ابن سعد في الطبقات: (3/ 62) عن إبراهيم بن أبير ربيعة المخزومي، ومن طريقة ابن عساكر في تاريخ دمشق: (230) [ترجمة عثمان] كما أخرجها أبو هلال العسكري في الأوائل: (1/ 260) في أوّل ما ‌أرْتجِ عليه في الخطبة، عن أبي العالية، وأوردها السرقسطي في كتاب الدلائل في غريب الحديث: (2/ 523)، وابن عبد ربه في العقد الفريد: (4/ 66)، كما أورد هذه الحكاية القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: (18/ 115)، وذكرها الزيلعي في نصب الراية: (2/ 197) وقال: “ذكره الإمام القاسم بن ثابت السَّرَقُسطِي في كتاب غريب الحديث من غير سَنَدٍ” وقال علي القاري في المصنوع في معرفة الحديث الموضوع: (130) “قال ابن الهمام: لم تُعْرَف في كتب الحديث، بل في كتب الفقه” وأوردها أيضًا ابن كثير في البداية والنهاية:(10/ 216). وقال: “وهو شيء يذكُرُهُ صاحب العِقْد وغيره ممَّن يذكُرُ طرف الفوائد، ولكن لم أر هذا بإسنادٍ تَسْكُنُ النَّفْسُ إليه”.

[15]  انظر كتابه: قانون التأويل (ص98)

[16] عيون الأخبار (2/ 279)

[17] العقد الفريد (4/ 231)

[18] عمدة الكتاب لأبي جعفر النحاس (ص360)

[19] عيون الأخبار (2/ 280)

[20] العقد الفريد (4/ 232)

[21] عيون الأخبار (2/ 281)

[22] عيون الأخبار (2/ 282)

[23] عيون الأخبار (2/ 282)

[24] العقد الفريد (4/ 231)

[25] نثر الدر في المحاضرات (3/ 65)

[26] أمالي المرتضى غرر الفوائد ودرر القلائد (معتزلي) (2/ 102).

[27]المصنف في المعرفة (1736). وأخرجه ابن حبان (2242)، والطبراني (13216) من طريق هشام بن عمار به. وأبو داود عقب (907) من طريق هشام بن إسماعيل عن محمد بن شعيب به. دون قوله: “أن تفتح على”. وصححه الألباني في صحيح أبي داود (803)

[28] المنتقى شرح الموطإ (1/ 152)

[29] بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/ 157)

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى