نقد ادعاءات مذكرة “من أجل المساواة في الإرث” في دلالة الحدود وعلاقتها بالأحكام

ورد في المذكرة “أن نظام الإرث من الحدود وليس من الأحكام، وهو ما يتيح الاجتهاد فيها زيادة ونقصانا وإلغاء، فالحدود ” تعني أن هذا هو الحد الأقصى أو الأدنى، في نظام الإرث الذي لا يمكن تجاوزه في الأعلى أو النزول عنه في الأسفل، لكن يمكن مخالفته بتشريعات أخرى تقع بين الحدين، لذلك تأتي الآية التي بعد هذه فتقول: )وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (وبهذا نقول بأن هذا النظام هو نظام حدودي، وليس حكما قاطعا مفروضا، وكل ما كان حدودا، يحق لنا أن نخالف ما جاء فيه، بما لا يتجاوز الحد الأقصى أو الأدنى المذكور في الآيات،”

فما جاء في المذكرة مرافعة تستند إلى مفهوم الحدود من حيث الدلالة اللغوية، وإسقاطه على المعنى ومخرجاته التشريعية، وهو اختيار واه للاعتبارات التالية:

1: في مفهوم الحد وحقيقته:

جاء في لسان العرب الحَدُّ الفصل بين الشيئين لئلا يختلط أَحدهما بالآخر أَو لئلا يتعدى أَحدهما على الآخر وجمعه حُدود وفصل ما بين كل شيئين حَدٌّ بينهما ومنتهى كل شيء حَدُّه ومنه أَحد حُدود الأَرضين وحُدود الحرم… وحدَّدَه ميزه وحَدُّ كل شيءٍ منتهاه لأَنه يردّه ويمنعه عن التمادي… وسميت حدوداً لأَنها تَحُدّ أَي تمنع من إِتيان ما جعلت عقوبات فيها، وسميت حدوداً لأَنها نهايات نهى الله عن تعدّيها… وأَصل الحَدِّ المنع والفصل بين الشيئين فكأَنَّ حُدودَ الشرع فَصَلَت بين الحلال والحرام فمنها ما لا يقرب كالفواحش المحرمة ومنه قوله تعالى تلك حدود الله فلا تقربوها ومنه ما لا يتعدى كالمواريث المعينة وتزويج الأَربع ومنه قوله تعالى تلك حدود الله فلا تعتدوها ”  

فالحد لغة هو المنع والصرف عن الشيء من الخير إلى الشر، والمحدود الممنوع من الخير وغيره، والحِداد الترك، “وفي الحديث لا تُحِدَّ المرأة فوق ثلاث، ولا تحد إلا على زوج” وإحداد المرأة على زوجها ترك الزينة”   والحد الحاجز بين الشيئين لئلاّ يختلط أحدُهما بالآخر ، والحدود بين البلدان خطوط فاصلة لا يمكن تجاوزها، وحد الشيء منتهاه..

والقول بأن لكل حد أقصاه وأدناه يخرج عن بيان الحقيقة والماهية إلى التفصيل والتقسيم، إذ معلوم في الدراسة المنطقية أن التعريف يكون بالحد أو الرسم واللفظ، وأتم التعاريف ما كان بالحد التام الذي يجمع بين الجنس والفصل، فيدل على حقيقة الماهية وتمامها.

وما ورد في المذكرة ما هو بالتعريف للحد، ولا ببيان دلالته وحقيقته، فكيف بالحكم أنه ليس من منظومة الأحكام التشريعية، وهو من العيوب المنطقية في بناء المفاهيم والحكم عليها، جاء في متن السلم للأخضري،  ” وعندهم من جملة المردود ان تدخل الأحكام في الحدود” لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإدراك التصورات مقدم على التصديقات ، يقول صاحب متن السلم:

إِدْرَاكُ مُـفْرَدٍ تَـصَوُّراً عُلِمْ ** وَدَرْكُ نِسْبَـةٍ بِتَصْـدِيقٍ وُسِمْ

وَقَـدِّمِ الأَوَّلَ عِـنْدَ الـوَضْعِ ** لِأَنَّــهُ مُـقَـــدَّمٌ بِالـطَّـبْعِ

2: في نسبة الألفاظ على المعاني:

يقول صاحب متن السلم:

وَنِسْبَةُ الأَلْـفَاظِ لِلْـمَـعَـانِي ** خَمْسَةُ أَقْـسَامٍ بِلاَ نُـقْـصَانِ

تَـوَاطُؤٌ تَشَاكُـكٌ تَخَـالُفُ ** وَالاِشْتِـرَاكُ عَكْسُهُ التَّرَادُفُ

والمقصود من الأبيات أن علاقة المعنى باللفظ تنقسم إلى خمسة أقسام، أجملها المناطقة في الحالات التالية:

  • معنى واحد ولفظ واحد: ويشمل المتواطئ والمشكك. 
  • معنى واحد واللفظ متعددة ويخص المترادف،
  • معنى متعدد وألفاظ متعددة ويخص المتباين.
  • لفظ واحد والمعنى متعدد، ويخص المشترك

والذي يهمنا في هذا الصدد هو الحالة الأخيرة التي تخص المشترك، حيث اللفظ واحد والمعنى متعدد، وفيه أقسام عدة يهمنا منها القسم الذي وضعت معانيه للفظ ثم نقلت لمعنى ثان وثالث، ويكون الناقل فيه إما الشرع مثل الصلاة والحج فالمعنى الشرعي للمصطلحين ليس هو المعنى اللغوي لهما، أو العرف مثل الولد واللحم.. فقد انتقلت معاني المصطلحات من دلالاتها اللغوية إلى دلالتها في الاستعمال الشرعي والاصطلاحي والعرفي مع الإبقاء على المعنى اللغوي وإن كان أقل استعمالا.

فمصطلح الحد يدل في معناه اللغوي على ما سبق، لكنه غلب في دلالته شرعا على العقوبات المقدرة، وعلى الأحكام الشرعية من أوامر لا ينبغي تعديها، ” تلك حدود الله فلا تعتدوها” البقرة 229،  أو نواهي لا ينبغي الاقتراب منها، ” تلك حدود الله فلا تقربوها” البقرة 187. فقد جاء في كتاب الله ” في غير موضع بأنها محَارم اللّه وعُقُوبَاتُه الَّتي قرَنَها بالذُّنوب وأصْل الحَدّ المنْع والفَصْل بين الشَّيئين فكأنَّ حُدُودَ الشَّرع فَصَلَتْ بين الحلال والحرام فمنها ما لا يُقْرَب كالفَواحش المُحَرَّمة ومنه قوله تعالى ” تلك حُدودُ اللّهِ فلا تَقْرَبوها “. ومنها ما لا يُتعدّى كالموارِيث المعيّنَة وتَزْويج الأربع . ومنه قوله تعالى ” تلك حدود اللّه فلا تَعْتَدُوها ” ، ومنه الحديث ” إني أصَبْت حَدًّا فأقِمْه عَلَيّ ” أي أصبت ذَنْباً أوْجَب عليّ حَدًّا : أي عُقوبَةً ، ومنه حديث أبي العالية ” إنّ اللَّمَم ما بَين الحَدَّيْن : حَدِّ الدنيا وحَدِّ الآخرة ” يريد بحَد الدنيا ما تَجب فيه الحدود المكتوبة كالسَّرِقة والزِّنا والقَذْف ويُريد بِحَدِّ الآخرة ما أوْعَد اللّه تعالى عليه العَذابَ كالقَتْل وعُقُوق الوَالدَيْن وأكْل الرّبَا فأرادَ أن اللَّمَم من الذُّنوب : ما كان بَين هذَيْن مِمَّا لَم يُوجب عليه حَدًّا في الدنيا ولا تَعْذِيبا في الآخرة “

وبالعودة لمنطوق المذكرة يتضح غياب تعريف دقيق للمفهوم، وتعسف في تحميله ما لا يحتمل من المعاني بما يتعارض مع دلالته اللغوية ودلالته الاصطلاحية، وهو عيب منهجي أفضى إلى الحكم الفاسد بإخراج دلالة المفهوم من منظومة الأحكام الشرعية، والادعاء أن الحدود لا علاقة لها بالأحكام.

فضلا على أن الآيات القرآنية في مجملها تدل في مفهومها ومضمونها وسياقها على أن أحكام الإرث واجبة شرعا، ومفروضة نصا، لا تخيير فيها بموجب الأهواء والاعتبارات الشخصية والفردية للمالك أو الورثة، بل مقدرة تقديرا من الخالق جل جلاله، وهو ما سبق وأشرنا إليه في المقالة الخاصة بالتفريق بين مفهوم الوصية والكتابة في النصوص القرآنية.

3: في علاقة الحكم بالحد:

أشرت أن الخلل المنهجي في بناء المفهوم أفضى إلى بناء تصور فاسد لعلاقة الحكم بالحد، وهو ما تؤكده العودة لدلاة الأحكام وطبيعة العلاقة القائمة بين المفهومين، فالحكم في دلالته اللغوية دال على المنع والصرف والقضاء، إذ يقال حكمت عليه أي منعته من خلافه، .. وهو قاسم مشترك بين المفههومين من حيث الدلالة،

أما من حيث الدلالة الشرعية فهو عند الأصوليين دال على ” خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع”  وعند الفقهاء يدل على ” الأثر المترتب عن خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع” فالحكم هو النص عند الأصوليين، وعند الفقهاء هو ما تضمنه النص من أثر، وهو الحرمة أو الوجوب أو الكراهة.. أي المنع أو الإلزام أو الإباحة، وهي معان لها علاقة بدلالة الحد في اللغة، أما من حيث الاصطلاح فالحد نتيجة لمخالفة الحكم، ما يجعل العلاقة بينهما علاقة سبب بنتيجة، تدفع الادعاء القائل بغياب العلاقة القائمة بينهما، وأن كل ما كان حدا يحق لنا أن نخالف ما جاء فيه، بما لا يتجاوز الحد الأقصى أو الأدنى المذكور في الآيات.

د. محمد ابراهمي

عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى