القرآن وصلاة التهجد: مكابدة الروح والجسد

القرآن والقيام في سياق الدعوة:

مع انطلاقة الدعوة الإسلامية بمكة المكرمة تلقى الرسول صلى الله عليه وسلم أمرين تشريعيين ثقيلين بدلالتهما الحسية والمعنوية للثِّقَل، الأمر الأول كان دعوةً إلى قيام النهار من أجل تبليغ الرسالة للناس في الأماكن العامة والخاصة، وجاء هذا الأمر في قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ» [المدثر: 1 – 7]، والأمر الثاني فقد كان دعوةً إلى قيام الليل (التهجد) من أجل تزكية النفس وشحذ الروح عن طريق الاتصال بمصدر الطاقة الإيمانية وهو رب العالمين سبحانه وتعالى، وجاء هذا الأمر في قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا » [المزمل: 1 – 8].

ونستخلص من هذين الأمرين التشريعيين ما يلي:

  • كمال التطهر:

جمع الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم بين الكمالات الحسية والمعنوية (زينة الإيمان)، حتى يكون في أكمل مظاهر التقرب إلى الله تعالى، لأن الله تعالى طيب ولا يقبل إلا طيبا ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث قدوة للناس، فلا بد أن يكون مثالا أعلى في بلوغ مراتب العبودية والتقرب إلى الله في جمعه بين كمال زينة الظاهر وزينة الباطن.

  • الطهارة الحسية أولا:

بدأ الله تعالى ب (طهارة الثياب) لأنها المنطلق والبداية نحو تحصيل طهارة النفس والباطن، ورغم قوة دلالة لفظ “الثياب” على الظاهر لأن الثوب في اللغة يراد به اللباس الساتر للجسد، فإن المعنى المجازي ل”الثياب” يراد به النفس على سبيل الكناية لعلاقة المجاورة كما يقول أهل البلاغة، «وذلك لأنّ الثوب يلابس الإنسان ويشتمل عليه، فَكُنِّيَ به عنه»[1]، نستنتج إذا أن الآية “وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ” جمعت في الطهارة بين الوسيلة والغاية، أي أن طهارة البدن وسيلة لازمة لبلوغ طهارة النفس والقلب، فلا يمكن لوَسِخِ الثوب والبدن أن يكون قدوة للناس، وقد كان صلى الله عليه وسلم يبرز لأصحابه وللوفود في أكمل هيئة وأبهاها من غير كبر ولا خيلاء.  

  • طهارة الباطن هي الغاية والمقصد:

قصر الحق سبحانه الهجران على ترك المعاصي الموجبة للعذاب في الدنيا والآخرة (وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ) «قال الزجاج: الرِّجزُ في اللغة: العذاب. ومعنى الآية: اهجر ما يؤدِّي إلى عذاب الله»[2]، « وقال ابن عباس: الرجز: السُّخط، فالمعنى اهجر ما يؤدي إليه ويوجبه، وقال الحسن (البصري) : كل معصية رجز»[3]، فالرجز إذن يشمل كل الذنوب الكبيرة التي تحجب صاحبها عن رحمة الله، وتجر عليه نقمته وعذابه، قال تعالى « فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ » [البقرة: 59]، ومن ثم فالعلاقة بين الرجز (العذاب) والمعاصي هي علاقة اللازم بملزومه كما يقول البلاغيون، وهجر الرجز في حق الرسول صلى الله عليه وسلم هو «الثبات على هجره، لأنه كان بريئاً منه»[4] عليه الصلاة والسلام، فهو قدوة لأمته في جميع أحواله، ولأن مقام الدعوة إلى الله وهو مقام الأنبياء لا يرقى إليه إلا من طهر نفسه من كل أنواع الرجز والرجس أيضا.

  • صلاة التهجد صقَّالة القلوب المؤمنة:

صلاة القيام من أعظم وسائل التطهر القلبي والتقرب إلى الله، لأن الصلاة بصفة عامة وصلاة الليل خاصة صلة واتصال بالسماء، أي  (كونيكسيون Connexion) بلغة اليوم بواسطة جهاز القلب، وهو جهاز طبيعي مهيأ لتحقيق هذا الاتصال شريطة التزامه بقواعد الاتصال، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «…فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ»[5]، ومن ثم فُرض قيام الليل على المسلمين في بداية الدعوة في بداية سورة “المزمل” ثم خفف حكمه في آخرها، ولذلك قال كثير من المفسرين « ليس في القرآن سورة نَسَخَ آخِرُها أولَها سوى هذه السورة، وذهب قوم إلى أنه نُسِخَ قيامُ اللَّيْلِ في حقِّه بقوله تعالى “ومن الليل فتهجَّدْ به نافلةً لكَ” [ الإسراء : 79 ] ونسخ في حق المؤمنين بالصلوات الخمس. وقيل : نسخ عن الأمة، وبقي عليه فرضه أبداً. وقيل : إنما كان مفروضاً عليه دونهم»[6]. ومهما كان فإن الإلزام به من البداية يبين فضله وقيمته التربوية.

  • السياق القرآني ومقاصد مكابدة التهجد:

إن سياق آيات صلاة القيام والتهجد في القرآن الكريم هو الذي يعرفنا بحقيقة هذه العبادة والمقاصد الدعوية والتربوية التي أنيطت بها، وهذه قضية يغفل عنها كثير من الناس من المقلدين في عبادتهم، والذين يقفون مع رسوم العبادة ومظاهرها الشكلية دون الغوص في أعماقها وطلب أسرارها الإيمانية القلبية، لكن لو رجعنا إلى القرآن فسنجد أن صلاة التهجد كانت عند أنبياء الله وأوليائه زادَهم الروحيَّ الذي يقطعون به مسافات السير إلى الله، ويواجهون به ابتلاءات الحياة وشدائدها، وها هو القرآن الكريم يحدثنا عن الأنبياء عليهم السلام في سورة تحمل اسمهم « وَزَكَرِيَّاء إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ» [الأنبياء: 89، 90]، حيث وصفهم الباري سبحانه بالقوة في الدعاء، والدعاء هو العبادة التي بها تُستجلبُ المنافعُ وتدفع المضارُّ، ووصفهم بالسبق إلى فعل الخير، أي القوة في العمل والإنجاز وإحسانهما، ووصفهم بملازمة حالة الخشوع «والخشوع: خوف القلب بالتفكر دون اضطراب الأعضاء الظاهرة»[7]، وهو حالة إيمانية تنتج عن قوة الصلة بالله عز وجل من كثرة الإدمان على الصلاة والذكر، وبه تقوى فراسة المؤمن وحسنُ نظره في الأمور والعواقب، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه يحسم في بعض أمور الخلافة وهو داخل صلاته.

  • مكابدة التهجد من خلال سياق سورة الإسراء:

وفي سورة الإسراء التي تزامن نزولها مع فرض الصلوات الخمس يوجه الله عز وجل الأمر لنبيه صلى الله عليه وسلم بإقامة الصلاة الفريضة والاستمرار على صلاة التهجد، ضمن سياق يغلي بمشاهد الصراع بين الحق والباطل حيث كانت المكايد والمؤامرات تحيط بالنبي صلى الله عليه وسلم من كل جانب، يقول الحق سبحانه «وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْاَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خَلفَكَ إِلَّا قَلِيلًا سُنَّةَ مَنْ قَدَ اَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا» [الإسراء: 76 – 82].

  • نستنتج من هذا السياق ما يلي:

استمرارية الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بالمداومة على صلاة القيام إلى جانب الصلوات المفروضة، وهذه الصورة التشريعية النهائية لشعيرة الصلاة نصصت على تكامل الفريضة والنافلة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لبلوغ المقام المحمود غدا يوم القيامة، وفسر ب«الشفاعة للناس يوم القيامة» أو بأن الله «يجلسه على العرش يوم القيامة»[8]. والراجح حسب المفسرين أن التهجد لم يَصِرْ فرضا كما كان في البداية، لكنه ظل يحتفظ بنفس قيمته التعبدية التي يعكسها قول النبي صلى الله عليه وسلم «أتاني جبريل فقال: “يا محمد ! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مَجزِيٌّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعِزُّه استغناؤه عن الناس”»[9].

الارتباط الوثيق بين صلاة القيام (مكابدة الليل)، وبين كسب معارك الحياة وانتصاراتها في جميع المجالات، وهذا ما حقق عزة المسلمين عبر التاريخ، وجعلهم يدركون قيمة الوقت في بناء مشاريعهم الحضارية، من خلال جمعهم بين قيام الليل وقيام النهار «وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا»، «وقد عمت هذه الدعوة جميعَ المداخل إلى ما يُقدر له الدخول إليه، وجميع المخارج التي يُخرج منها حقيقة أو مجازا»، و«لم يسأل سلطانا للاستعلاء على الناس، وإنما سأل سلطانا لنصره فيما يَطلبُ النصرةَ وهو التبليغُ وبث الإسلام في الناس»[10].

تقرير الصفة التربوية العلاجية للقرآن الكريم في علاج أمراض النفوس، ليس بمعنى الرقى والتعاويذ فقط وهو حاصل ومشار إليه في كتب التفسير والسنة، وإنما بالمعنى العميق والدقيق الذي وضحه علماء الإسلام، فالزمخشري اعتبر “من” بيانية وليس تبعيضية لأن «كل شيء نزل من القرآن فهو شفاء للمؤمنين، يزدادون به إيماناً، ويستصلحون به دينهم، فموقعه منهم موقع الشفاء من المرضى.»[11]، ونفس المعنى قرره الطاهر بن عاشور في قوله «والشفاءُ حقيقتهُ زوالُ الداء، ويُستعمل مجازا في زوال ما هو نقص وضلال وعائق عن النفع، من العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة والأخلاق الذميمة تشبيها له بِبُرءِ السُّقم.»[12].

  • مكابدة التهجد والنموذج الإنساني في مدرسة الإسلام التربوية.

يصف الله تعالى القائمين المتهجدين بقوله «الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْاَسْحَارِ» [آل عمران: 17]، وقال أيضا «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ  وَبِالْاسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»[الذاريات: 15 – 18]، وقد عقب الزمخشري على آيات الذاريات بقوله «وَصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم»، وهذا الوصف تجسيد للنموذج الإنساني الذي تُخَرِّجُه مدرسة التربية في الإسلام، وهو نموذج يرتقي إلى أعلى درجات الإحسان والتواضع، فبقدر ما يجتهد ويعمل لنفسه ولمجتمعه ولأمته بقدر ما يُحس بالذنب والتقصير فيطلب العفو والصفح من خالقه، وقد وصف الحسن البصري هذا النموذج بقوله «إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءةً وأمنا» [13].

ومن ثم كانت ناشئة الليل (قيام ساعات من الليل) أشدَّ وطئاً أي أشد « ثبوتاً واستقلالاً بالقيام» وأقوم قيلا «بخلو أفكارهم وإقبالهم على ما يقرأونه»[14]، وفي هذا تَضافر بين مكابدة البدن (القيام) ومكابدة الروح والعقل (حسن التدبر للقرآن الكريم) لأن «القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهُّم للقرآن والإحكام لتأويله»[15]، وهنا تتخلق صفة الربانية التي أمر بها الحق سبحانه في قوله «وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» [آل عمران: 79]، أي كُونُوا رَبَّانِيِّينَ « بسبب كونِكم عالمين، وبسبب كونكم دارسين للعلم، أوجبَ أن تكون الربانية التي هي قوّة التمسك بطاعة الله مسبَّبَةً عن العلم والدراسة، وكفى به دليلاً على خيبة سعيِ من جَهَدَ نفسه وكَدَّ روحه في جمع العلم، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل، فكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء تونِقُه بمنظرها ولا تنفعه بثَمَرها»[16]، وصفة الربانية هي التي تعصم الداعية من أن يتحول إلى انتهازي يجعل الدعوة غطاء لتحقيق أمراضه النفسية الداخلية، أو يتحول إلى تاجر دين يطلب لَعاعَةَ الدنيا الفانية بتسلق المنابر الدعوية، أو يتحول إلى مستسلم متهاون سرعان ما يتنازل عن مبادئه أمام أضعف الابتلاءات، أو يتحول إلى طالب شهرة تَستهويه صيحات الموضة في كل شيء فيقع فريسة سهلة لشِباك الضلالة والغواية تحت مسميات ظاهرُها الرحمةُ وباطنها يخفي العذابَ.   

  • قيام رمضان والمقاصد التربوية السالفة

لا بد ونحن نستقبلُ شهرَ رمضان الأبرك فالكل منا يستحضر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الداعية للصيام والقيام، ومنها هذا الحديث الجامع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه » متفق عليه (البخاري ومسلم)، لكن في نفس الوقت لا بد من التنبيه لقوله صلى الله عليه وسلم “رُبَّ صائمٍ حَظُّهُ من صيامه الجوع والعطش، ورُبَّ قائمٍ حَظُّهُ من قيامه السهر”[17]. لأنه بمقدار ما نتحمس للفوز بغنائم العبادة في هذا الشهر العظيم، يجب علينا أن نكون حذرين من إفراغ العبادة من محتوياتها التربوية الإيمانية، ومن ثم عزلها عن مقاصدها التعبدية التربوية، وتحويلها إلى طقوس كنسية جافة لا معنى لها (Rites)، فتضيع جهودنا سُدىً.

  • خلاصة واستنتاج:

وأنبه في الختام أنَّ قيمة الصيام والقيام رهينة بالإحساس والشعور الذي يتركه في قلوبنا كل من الصيام والقيام والقرآن، فإذا أحسسنا بالتغير نحو الأحسن في شعورنا وسلوكنا وتفكيرنا، أو على الأقل أن نحافظ على المستوى الحسن إن كنا نتحقق به، فينبغي أن نحمد الله ونمضي قدما في طلب المزيد، وإن كان العكس فينبغي أن نراجع عبادتنا قبل انصرام رمضان، وإنه ليمر بسرعة البرق، لأن من أدرك رمضان ولم يغفر له فقد أخطأ موعدا تُرى هل يدركه مرةً أخرى أم لا ؟

والعبادة أيها الكرام هي وسطٌ واعتدالٌ بين مبالغات التَّفريطِ والإفراطِ، وهنا أنبه الإخوة الدعاة والوعاظ أن يعرفوا الناس عبادة الصيام والقيام من خلال المنهج الوسطي الذي جاءت به السنة الشريفة، فقد دخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجدَ وحبلٌ ممدودٌ بين ساريتين، فقال: ” ما هذا الحبل؟! “. فقيل: يا رسول الله! هذه حَمْنَةُ بنت جَحْشٍ تصلي؛ فإذا أعْيَتْ تعلَّقَتْ به. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لِتُصَلِّ ما أطاقت؛ فإذا أعْيَتْ فَلْتَجْلِس” وفي رواية: ” فقال: ما هذ ا؟! “، فقالوا: لزينب تصلي، فإذا كَسَلَتْ أو فَتَرَتْ أَمسكت به. فقال: ” حُلُّوهُ “. فقال: ” لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشاطَهُ، فإذا كَسَلَ أو فَتَرَ، فَلْيَقْعدْ “[18]. وهناك أحاديثُ لا تُحصر في هذا المجال، وهي أولى بالتعليم مما تمتلئ به كتب الزهد والرقائق من المبالغات أن فلانا كان يصلي الفجر بوضوء العشاء، وهو أمر لا نقدر عليه اليوم حتى لو صَحَّ، وأول العاجزين عنه من يحدثون به منا، أو أن فلانا كان يختم القرآن كل ليلة ختمةً أو ختمتين، وهو أمر يتعارض مع صحيح السنة النبوية عن عبد الله بنِ عمرو قال : ” قلت : يا رسول الله ! في كمْ أقرأُ القرآنَ ؟ قال: “اِقْرَأْهُ في شهر” قلت: إني أَقْوى على أكثرَ من ذلك. قال: ” اِقرأهُ في خمسٍ و عشرين، اِقْرَأْهُ في عشرين، اِقْرَأْهُ في خمسَ عشرة، اِقْرَأْهُ في سَبعٍ، لا يَفقهه من يقرؤه في أقلَّ من ثلاثٍ [19]، ولنعلم أن التحديث بالأخبار المبالغ فيها قد يكون سببا في الفتور والتقاعس عن العمل عكس ما يُظن في العادة، والفقيه اللبيب من كانت موعظته ترغيبا وترهيبا، ويكون ميله إلى الترغيب والتيسير هو الغالب، ورُبَّ ركعتين يقوم فيهما العبد بما تيسر معه من القرآن ويصدق فيهما العمل أعظم في ميزان الله من عمل كثير لا صدق فيه مع الله.

وقد يعترض البعض بعدد الركعات وطول قيام النبي صلى الله عليه وسلم، والجواب أن التزام وِرْدٍ نحدد فيه عدد  الركعات وقدرا من الآيات هو فقط لتشجيع النفس وطرد الكسل، وقد وردت به السنة النبوية بدون شك، لكن السنة ذكرت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعَدِّلُ ويغير قي ورده بحسب الأحوال الطارئة عليه، فقد قام الليل بإحدى عشرة ركعة وهو الغالب من فعله في أحواله العادية، وقام بأقل من ذلك في أحواله الاستثنائية كما قالت عائشة رضي الله عنها «فَلَمَّا أَسَنَّ نَبِيُّ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- وَأَخَذَ اللَّحْمَ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ…»[20]، والواقع أن أحاديث القيام تحتاج إلى دراسية نصية سياقية تكشف عما عُرفَ عن هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تكامل وتوازن وتيسير ورحمة، ولذلك إذا استقصينا مجملَ ما جاء في السنة من أحاديث وروايات نَخْلصُ إلى أن عمله صلى الله عليه وسلم الذي داوم عليه في القيام والصيام كان خاصا به، ولا نقدر على مجاراته فيه، وحتى لو جاريناه شكلا فهيهات أن ندركه في معناه وروحه (يراجع حديث النفر الثلاثة ).

وخُلاصة هديه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يُلزم أصحابَه بما أوْجَبَهُ عليه ربُّه أو أوْجَبَهُ هو على نفسه، فقد جاء في المُوطَّإ لمالك رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم «كَانَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِعَزِيمَةٍ…»[21]، ولذلك أَوْقَفَ صلاةَ التراويح بالناس خوفاَ من أن تفرض عليهم وقال لهم «وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ»[22]، حتى كان زمن عمر بن الخطاب فأحياها من جديد بعدما زالت أسباب الخوف من فرضها. والخوف هنا له معنيان عند شُرّاح الحديث، الأول ما ذكره ابن بَطَّال «فخشي إن خرج إليهم والتزموا معه صلاة الليل أن يسّوى الله تعالى بينهم وبينه في حكمها، فيفرضها عليهم من أجل أنها فرض عليه، إذ المعهود في الشريعة مساواة حال الإمام والمأموم في الصلاة»[23]، والثاني ما ذكره ابن حجر «وقيل خشي أن يظن أحدٌ من الأمة من مداومته عليها الوجوبَ، وإلى هذا الأخير نحا القرطبي فقال قوله فتفرض عليكم أي تَظُنُّونه فرضا فيجب»[24]، ولمَ لا نضيف تفسيرا ثالثا وهو خوفه من أن يفرضها الناس بالعادة فيشقوا على أنفسهم وغيرهم كما حصل مع سنة عيد الأضحى مثلا والله أعلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه بالأيسر من الأعمال التي يطيقونها، وكان في نفس الوقت يكره الكسل والقعود عن العمل المقدور عليه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

إعداد: د محمد بنينير

 

المراجع:

[1] – “الكشاف” للزمخشري.

[2] – “زاد المسير” لابن الجوزي.

[3] – “المحرر الوجيز” لابن عطية الأندلسي.

[4] – “الكشاف” للزمخشري.

[5] – “سنن الترمذي” و”صحيح الجامع” للألباني( 1724 ).

[6] – “زاد المسير” لابن الجوزي.

[7] – “التحرير والتنوير” للطاهر بن عاشور.

[8] – “زاد المسير” لابن الجوزي.

[9] – السلسلة الصحيحة – الألباني.

[10] – “التحرير والتنوير” للطاهر بن عاشور.

[11] – “الكشاف” للزمخشري.

[12] – “التحرير والتنوير” للطاهر بن عاشور.

[13] – “مدارج السالكين” لابن قيم الجوزية.

[14] – “المحرر الوجيز” لابن عطية الأندلسي.

[15] – “زاد المسير” لابن الجوزي.

[16] – “الكشاف” للزمخشري.

[17] – الألباني: ( حسن صحيح )، رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري.

[18] – صحيح أبي داود .

[19] – الألباني: في ” السلسلة الصحيحة ” و” صحيح أبي داود “.

[20] – صحيح مسلم – م – (ج 2 / ص 168).

[21] –  “الموطأ” للإمام مالك – (ج 2 / ص 157).

[22]  – نفسه: (ج 2 / ص 156)

[23] – “شرح صحيح البخارى” لابن بطال (ج 3 / ص 118).

[24] – “فتح الباري” لابن حجر (ج 3 / ص 13).

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى