الدعوة إلى الله بين المجالسة والمراسلة – بنداود رضواني

ثقافة المجالسة في الرسالة المحمدية

 “كَان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستر النبوة ويدعو إِلى الإسلام سرا، وكان أَبُو بكر رضي الله عنه يدعو أيضا من يثق به من قومه ممن يغشاه، ويجلس إليه، فلما مضت من النبوة ثلاث سنين نزل قوله عز وجل : ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ )، فأظهر الدعوة”، – المنتظم في تاريخ الأمم والملوك (2/364)- ، لإبن الجوزي.

القصد هنا من كلمة ” المجالسة “، ليس جلوس زيد مع عمرو مثلا، وإن كان هذا المعنى هو المتداول لغويا، لكن المراد هنا هو ” اللقيا البدنية، والمقابلة الوجهية، والتواصل النفسي والشفهي بين زيد وعمرو، وقد تحصل المجالسة بالقعود أو بدونه “، فدلالة المجالسة إذن أوسع وأرحب من مجرد المحادثة قعودا مباشرا إلى الأرض أو على أريكة أو غيرهما…. كما قد يظن البعض.

وتشهد المآثر المتواترة للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أن دعوتهم لم تكن معزولة عن الناس، ولا صيحة في واد، أو دعوة في هباء، بل اتصلوا بأقوامهم وذويهم، فحاوروهم وجادلوهم ووعظوهم وأنذروهم وبشروهم….، وما تم ذلك إلا بمقابلتهم ومجالستهم، والدخول عليهم في اجتماعاتهم وأنديتهم.

ومنذ بداية أمر الدعوة الإسلامية، ثابر رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجالسة أصحابه، والاختلاء بهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وبقي هذا ديدنه وحاله، إذ لم يبخل عن الناس باللقيا والإتصال منذ ذلك الحين، وحتى لحظات النزع الأخير، نهوضا بواجب الصدع والبلاغ، وإيمانا منه بأثرهما في النفوس، وفعلهما في القلوب. يلخص هذا الحال، نظراته عليه الصلاة والسلام في مرضه الأخير إلى أصحابه وقد اجتمعوا للصلاة، فسره جمعهم، ووحدة كلمتهم، ونظر إليه الناس، فاستبشروا خيرا، وظنوا أن صحته قد عادت إليه، لكنها كانت نظرات الوداع، و لحظات اللقاء الأخير.

الدعوة إلى الله في مواجهة الفردانية

مع الأسماء التي علمها سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام كانت البداية، ولما سكن بنو آدم الأرض، أبدعوا لغرض التواصل والتفاهم الرموز والصور، حتى أدركوا اللغات والحروف، فكانتا بذلك وعاء لأحاديثهم وتعارفهم، هذا هو مسار تطور التواصل الإنساني حتى الأمس القريب باختصار.

لكن الراهن ينبئ عن حقبة مغايرة بل ومستفزة، بدأ يحتل فيها التواصل الإفتراضي الأولوية، وبدت تتدهور على إثره أشكال التواصل الجاد والمباشر، وتتخلف ثقافة المجالسة والمؤانسة عقبه. فوقع جمهور من الناس صرعى بين خيوط الشبكة العنكبوتية، وطوقتهم منصات التواصل من كل جانب، عن أيمانهم وشمائلهم، ومن بين أيديهم، ومن خلفهم، فللواحد منهم من الأصدقاء العالقين مثله في “النيت” العشرات…، لكن المفارقة أنه في الواقع يعيش وحيدا فريدا…!!

أما داخل البيت، فصار لكل فرد أسرته الإفتراضية غير أهله وعشيرته الحقيقيين، وأضحى لكل عالمه الخاص.

فمائدة الطعام التي كانوا يجلسون إليها، ويتحلقون حول أطايبها، ويتحدثون إبانها، قد طالها هي الأخرى الإهمال، وغطاها الغبار، مسكينة إنها كذلك من ضحايا الإنترنيت!!!

أما في ساحة الدعوة إلى الله، فتراجع البلاغ المباشر، وقلت المجالس الدعوية، وغابت المؤانسة والمؤالفة، وسرت محلها رسائل إرشادية، وصور دعوية، واقتباسات إيمانية من هنا وهناك، عبرالواتساب والفيسبوك ….. وغيرهما، فتوهم بعض الدعاة أنه بهذه الطرائق قد بلغ وأرشد، وأنذر وأعذر، وحاز مرتبة البلاغ الأكبر!!! لكن هيهات هيهات….، وهل تغني شبكة العنكبوت عن المجالسة في الأندية والبيوت ؟؟؟!!

بل ما قيمة حياة عزل صاحبها عن زوجه وأبناءه ؟؟ وما جدوى الساعات بل الأيام التي يصرفها المرء في “النيت” بعيدا عن إخوانه وأصدقائه، بعيدا عمن هو في أمس الحاجة إلى إرشاده، وتحسس أحواله، ومشاركة همومه وأحزانه ؟

إن الرغبة في عزل الإنسان عن الإنسان، والطموح في الاستفراد به بعيدا عن بني جنسه، والاجتهاد في إذكاء نزعة الأنانية والأثرة فيه، ليعد هدما للأسس الإنسانية التي قام عليها صرح الدعوة الإسلامية، بل عدوانا على البشرية جمعاء.

ويبقى السبيل لمواجهة كل ذلك، الإبداع في إقامة التوازن بين المجالسة والمراسلة، بين الواقع وفضاء الإنترنيت، بين المكتسبات الإنسانية للتعارف والتآلف ومستحدثات التواصل ومستجداته.

مواجهة النزعة الفردانية، تكون بإعادة الأهمية، ورد الاعتبار للمجالسة البناءة والمعتدلة، والإستئناس السليم والهادف، في ممارسة واجب البلاغ والدعوة إلى الله، كما سطرتها الرسالة المحمدية.

جاء في الحديث القدسي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتبادلين في” رواه مالك .

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى