كافي يعلق على رأي الدكتور الريسوني

رأيتكلمت كثيرا في هذه النازلة زمانا، وتجدد كلامي فيه منذ أن عرض الدكتور أحمد الريسوني حفظه الله تعالى على الناس رأيه، وكان من قولي إلى جانب الأقوال لعله أن يكون فيه شيء من النفع.

تواضعوا قليلا:

تواضعوا قليلا يا أهل العلوم الشرعية، فمكانتكم وترتيبكم يجب أن لا تخطؤوه مهما كان عندكم من العلم والمعرفة الشرعيين. عليكم أن تعلموا أن الحكم ليس هو الأهم رتبة في الشريعة، وإنما معرفة الواقع على حقيقته. ولذلك تجدهم يقولون: الحكم على الشيء فرع عن تصوره. أي أن الحكم فرع في القول الفقهي، والأصل عندهم أن تفهم النازلة وواقعها وتكون خبيرا بها حتى لا تقع لك الحوادث في الطريق.

وأضاف القرافي: وتصويره. أي أن تكون قادرا على تصويره وشرحه وتوضيحه، بما يؤكد فهمك للواقع أولا. فإن كنت عاجزا عن شرح هذا الواقع وبيانه، فلعل قولك يتعرض لمخاطر القول.

إن ما عندكم من العلم والمعرفة الشرعيين، لا يخول لكم الكلام إلا بنوعين من الفقه: الأول هو فقه الواقع(التصور). والحكم مهم في الشريعة ولكنه ليس الأهم، لأن سداده إنما هو نتيجة للأهم فيه(فقه الواقع). أعني تواضعوا واسألوا الخبراء في مجال المال والاقتصاد: هل هذه النسبة أو تلك وراءها نفع للمؤسسات المقرضة إذا أخذت بها أم لا؟

وإن القول منكم في هذه لا يحتاج إلى العلم بالعربية والشرع والمقاصد والأصول… وإنما يحتاج إلى الخبير بالواقع أولا، قال الشاطبي:” قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط، فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع، كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية؛ لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه، وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به”.

مُلاَّك الحقيقة:

وأنا زاهد في الحديث مع من يملك الحقيقة والقطع فيما لم يملكه الصحابة رضي الله عنهم والأئمة، وقد جاء هؤلاء المُلاّك إلى مسارح الظنون في أبواب الربا ليدَّعوا بصفاقة أثناء كلامهم أن عندهم الحق المبين في القول، ولمزوا غيرهم بالضلال والغضب…ويحهم لو سكتوا، أو تكلموا بتنسيب.

إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد غادر هذه الحياة بألم التباس وجه النظر السديد في أبواب الربا، وهو يرى نفسه أمام كثير من الأبواب الربوية قد أغلق عليه فيها أن يبصر الرأي لا شية فيه.

وعليه، لا يمكنك أن تحاور مالكا الحقيقة الدينية، ولا أن تقنعه، ولا أن يفهم عنك إذا خالفته. قوله في نظره هو الدين، وليس قولا في الدين.

مهما حاولت يا هذا، فلن يعدو قولك أن يكون عند الاختلاف إلا قولا في الدين مهما وقع في قلبك موقع القطع، ولن تعدو قدرك إذ جاوزت هذا الحد.

هؤلاء الكبار:

تجد الفقهاء الكبار في تكييف القضية ربا أو لا، يحتارون في التكييف الفقهي ومناط الإلحاق، وهؤلاء اليوم عندهم من الجرأة في تخطئة من اختار وتبين له ما لم يتبين لغيره.

عندما تجد الفاروق يتردد ويتحسر على أبواب من أبواب الربا، فيقول:” ثلاث، وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهدا: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا “(البخاري ومسلم).

تجد هؤلاء عندهم الوثوقية فيما عندهم إن كان عندهم عند، ويعتبرون أنفسهم أن جميع الأبواب الربوية لم تتفلت منهم، وعلى الوضوح القاطع.. ويحهم، ويحهم.

والأعلام:

ونظرت في الأئمة والفقهاء، فوجدتهم يعبرون عن نفس مقالة عمر بن الخطاب، وأنهم يحذرون من هذه الوثوقية عند حديثهم عن هذه المشكلات.

قال أبو حامد الغزالي:” مسائل الربا…من أغمض المسائل”.

وقال ابن كثير:” باب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم”.

ويعلق الشاطبي:” إن الربا محل نظر يخفى وجهه على المجتهدين، وهو من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها إلى اليوم”.

فهذه المسائل المشكلة سيكون للعالم فيها رأيٌ، بالضرورة لن يوافقه عليه آخرون، ولن يوافقهم هو أيضا فيما ذهبوا إليه. لأن القطع تعذر على الجميع في أبوابه الكثيرة.

كل قرض جر نفعا: ساقط ومتروك ومنكر

ووروده حديثا لم يصح عند أهل العلم، سواء رواية الحارث أبي أسامة، أو شاهده فضالة بن عبيد. فقد حكم البخاري على أنه منكر، وعند يحيى: ليس بشيء، وهي ساقطة عند ابن حجر. وهو الذي جعل ابن حزم يرفضها ويرفض مضمونها، ويقرر أنه يستحيل أن تجد قرضا من غير منفعة متلبسة به، للمقرض أو للمقترض، فقال:” وأما قولهم إنه سلف جر منفعة، فكان ماذا؟ أين وجدوا النهي عن سلف جر منفعة؟ فليعلموا الآن أنه ليس في العالم سلفٌ إلا وهو يجر منفعة، وذلك انتفاع المسلف بتضمين ماله، فيكون مضمونا – تلف أو لم يتلف – مع شكر المستقرض إياه، وانتفاع المستقرض بمال غيره مدة ما، فعلى قولهم كل سلف فهو حرام، وفي هذا ما فيه. وبالله تعالى التوفيق”.

ومع ذلك فإني لا أهجم على الحافظ ابن حزم ولا على غيره من الأعلام. وقائل بقول الجمهور، معملا قاعدتهم من جهة عمل الفقهاء لا من جهة الرواية.

مناط الخلاف:

وخلافكم مع الدكتور أحمد الريسوني ليس في الربا وحكمه. وإنما في مسألة دقيقة، وهي: هل هذه المعاملة ربا أم لا؟

ورأيت الرادين عليه يعتمدون القول بالقاعدة: كل قرض جر نفعا، فهو ربا في ردهم. والمسألة محسومة عند العقلاء، مع أن السؤال: هل هذا القرض بالذات يجر نفعا أم لا؟ فإن جره فحكمه الحرمة، وإن لم يجره، فما هو حكمه عندكم؟

أما الدكتور أحمد الريسوني فإنه استبان له أنه لم يَجُر شيئا، وبالتالي لا حرمة.

مسبوق في القول:

والدكتور أحمد الريسوني حفظه الله تعالى في اختياره هذا مسبوق بفقهاء لا ينازع في فقههم ومكانتهم وورعهم. فهذا الفقيه الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء يقرر أن هذه المؤسسات المقرضة التي تقرض بنسبة:2% جائز التعامل معها، وأنها ليست ربا. لأن النفع منعدم أو قريب من العدم. وأن هذه الفائدة إنما هي لاستدامة الانتفاع والارتفاق بها، بما ينهض بأعبائها من غير وجود ربح وراء معاملاتها هذه. ووافقه الشيخ يوسف القرضاوي وأيده في فتواه.

قاعدة الربا: كل قرض جر نفعا مشروطا فهو ربا

ومنطوق القاعدة ومفهومها عندهم أن الربا يشترط للقول به شرطان:

الأول: النفع أو التربح بالنسبة للمقرض من جهة قرضه.

الثاني: اشتراط هذا النفع على المقترض وعدم الإرفاق به.

فلا يقال بأن هذه المعاملة ربوية إلا إذا توفرت فيها شرط النفع والاشتراط على المقترض.

فإن وجدت الفائدة من غير أن يكون المقرض بقرضه منتفعا فلا ربا. وإن وجد النفع ولم يكن مشروطا، فمثل ذلك في حكم انعدام الربوية في هذه المعاملة.

القواعد:

ولذلك تجد الفقهاء يقعدون للشرط الأول بالقول:

كلُّ قرضٍ جَرَّ نفعاً فهو حرامٌ.     

كلُّ قرض جرّ منفعةً فهو وجه من وجوه الربا.

كلُّ سَلَفٍ جرّ منفعة فهو حرام.

وبالنسبة للشرط الثاني، فإنهم قعدوا له قائلين:

*كلُّ قرض شُرط فيه أن يزيده فهو حرام.

قال ابن المنذر:” أجمعوا على أن المسلِّف إذا شَرَط على المستسلف زيادةً أو هدية، فأَسلَف على ذلك، أنّ أخذ الزيادة على ذلك ربا”.

وجمهور العلماء أن المنفعة إذا حصلت للمقرض من غير اشتراط، فهي منفعة لا حرج فيها عندهم(حاشية ابن عابدين: 5/488، الشرح الكبير للدردير: 3/225، مغني المحتاج للشربيني: 2/119، كشاف القناع للبهوتي: 3/316، المحلى لابن حزم: 8/77، الدراري المضية للشوكاني: 1/315).

وإذن، ليس كل منفعة في المعاملات الربوية حراما عندهم.

قالوا: وإذا حصلت المنفعة للمقترض بحيث رد الأقل مما أخذ فلا حرج عليه. فهذه منفعة في القرض وقعت هذه المرة من أحد طرفي المعاملة المالية، وهو هنا: المقترض(الكافي لابن عبد البر).

الدليل على الشرطين:

أ ـ دليل شرط المنفعة:

عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال لأبي بُردة بن أبي موسى الأشعري: إنك في أرضٍ الربا بها فاشٍ، إذا كان لك على رجل حقٌّ، فأَهدَى إليك حِملَ تبنٍ أو حِمل شعير أو حِمل قَتٍّ، فلا تأخذه، فإنه ربا”(البخاري).

 ب ـ دليل اشتراط النفع:

استسلف النبي صلى الله عليه وسلم  من رجلٍ بَكْراً (وهو نوع من الإبل) ثم ردّ صلى الله عليه وسلم عليه خيراً منه، وقال: ” إن خيار الناس أحسنهم قضاءً”. وفي قصة أخرى عن جابر رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لي عليه دَيْن، فقضاني وزادني”(البخاري ومسلم).

فهذا دليل ما يفسد المعاملة من جهة الاشتراط. فإن كانت الفائدة من غير اشتراط منفعة واشتراطها، فالمعاملة صحيحة. قال ابن عابدين:” كل قرض جر نفعا حرام: أي إذا كان مشروطا كما علم مما نقله عن البحر، وعن الخلاصة وفي الذخيرة. وإن لم يكن النفع مشروطا في القرض، فعلى قول الكرخي: لا بأس به”.

انتفاع المقرض والمقترض بالقرض ليس ربا:

ومما ذكروه أيضا أن الانتفاع في القرض إن كان من جهتين فجائز، بل هو الصحيح عند الأكثرين. قال ابن تيمية في مسألة السفتجة المعلومة:” فهذا يصح في أحد قولي العلماء. وقيل: نهي عنه لأنه قرض جر منفعة والقرض إذا جر منفعة كان ربا. والصحيح الجواز؛ لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق في نقل دراهمه إلى ذلك البلد، وقد انتفع المقترض أيضا بالوفاء في ذلك البلد وأمن خطر الطريق، فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفعهم ويصلحهم، وإنما ينهى عما يضرهم”.

(يتبع إن شاء الله تعالى)

أخبار / مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى