المسلم والاستفادة من عامل الوقت في العطل والإجازات

إن رفع بعض الشعارات في مراحل معينة من الحياة هو من أجل تركيز الاهتمامات وترتيب الأولويات، وشعار “الوقت هو الحياة” مأخوذ من آيات قرآنية وأحاديث نبوية تحث على اغتنام الوقت والاستفادة منه، فالبعد الزمني في تعريف الإنسان بعد حاضر، وقد قال حسن البصري رحمه الله  : (يا ابن آدم، إنما أنت أيام مجموعة، فكلما مضى يوم مضى بعضك).

ولو نظرنا إلى مسألة الاستفادة من الوقت لوجدناها من الثوابت وليست من المتغيرات التي تتغير حسب مراحل العمر، سواء كان الإنسان طفلا أو شابا أو كهلا أو شيخا، وسواء كان طالبا أو عاملا أو كان موظفا فإن الاستفادة من الوقت وحسن استثماره خيار لا يتغير في الحياة، أي لا يأتي على الإنسان يوم يتغير فيه هذا الشعار ليرفع شعار قتل الوقت أو تضييع الوقت أو نحو ذلك، غير أن بعض المراحل والأوقات في السنة يكون فيها الإنسان مهددا بتضييع الوقت أكثر، فيحسن به حتى يتذكر قيمة الوقت أن يرفع شعارا في كل الفصول والفترات، لا لينشئ أمرا غير موجود في حياته، ولكن ليضاعف الجهد وليزيد من الاعتناء بوقته، ومن هذه الفترات فترات العطل والإجازات، وذلك حتى لا ينساق وراء النظرة السائدة في المجتمع، والتي تقسم الوقت إلى أول وثان وثالث.

فالوقت كله عند المسلم من النوع الأول وفي المرتبة الأولى، كما أن الإجازة ليست مناسبة لقتل الوقت، ولكن يتم استغلالها لإنجاز بعض الأعمال التي عجز المرء عن إنجازها في وقت العمل أو الدراسة، فالمبدأ الذي لا يتغير هو الانتفاع بكل خطة، والاستفادة من كل ثانية ودقيقة وساعة، وعندنا في دين الإسلام أن الوسائل لها حكم المقاصد، فإذا كان هناك شيء من الاستجمام والترفيه والاستراحة عونا على العمل، وعونا على العبادة، فإن هذا الترفيه وهذه الاستراحة يصيران عبادة، وينبغي أن تأخذ هذه الاستراحة حقها بلا إفراط ولا تفريط، وقد أثبتت التجربة الإنسانية مدعومة بالأبحاث العلمية، أن الإنسان بحاجة إلى الاستراحة، فالمرء يحتاج بعد 50 دقيقة من القراءة والمطالعة أو المتابعة العلمية إلى 5 أو 10 دقائق من الاستراحة كما يحتاج إلى استراحة ساعة بعد 4 أو 5 ساعات من العمل ويحتاج إلى ثمان ساعات من النوم بعد 12 أو 14 ساعة من اليقظة، ويحتاج كذلك إلى استراحة فصلية أو سنوية.

ويعد استغلال الوقت عند البعض من مؤشرات التحضر وهذا صحيح والسبب يرجع إلى التربية، فالفرد ينشأ في هذه المجتمعات المتقدمة على حسن الاستفادة من الوقت، ويتلقى مناهج وطرائق لتحقيق ذلك، كما أنه يجد المجتمع حوله معينا ومساعدا له، فلا يسعه إلا أن ينسجم مع هذا المجتمع ويقبل خياراته، فعندما يجد مجتمعا يقدر العمل ويعلي من قدره، ويفسح المجال لكل فرد ليظهر كفاءاته وقدراته، ويفيد أمته، فلا شك أنه يسير وفق ما عليه مجتمعه، وعندما يخرج من هذا الاختيار يشعر بالعزلة والتفرد، ويضطر ليعود مرة أخرى، لينسجم مع قيم المجتمع الذي يعيش فيه، وفي مقابل ذلك عندما يجد نفسه في مجتمع لا يعطي قيمة للوقت، ويجد الاختيارات السياسية والاجتماعية تسير في اتجاه إهدار الوقت، ويجد أحوال الناس من حوله مشجعة على تضييع الوقت، فإنه يتأثر ويحتاج إلى عزيمة فولاذية، حتى يسبح عكس التيار. فتضييع الوقت ظاهرة من ظواهر التخلف، والمجتمعات الإسلامية تعيش بصفة عامة هذه الآفة، على تفاوت بين أبناء الأمة الإسلامية في ذلك.

إن للإنسان هامش من الحرية يتمتع به كيفما كانت الظروف المحيطة به، وهو مسؤول عن هذا الهامش، ولا يلام فيها هو فوق طاقته، فمجتمعاتنا وإن كانت تهدر الوقت بصفة عامة، ولا تدرك قيمته الإدراك المطلوب، لكنها لم تبلغ أن تمنع من يريد الاستفادة من وقته منعا يسلب إرادته، والدليل هو الأعداد الكبيرة من المسلمين الذين أدركوا شرف الزمن وقيمة الوقت وعزموا على كسب هذا الرهان، والنجاح في هذا الاختبار وتجنبوا بالفعل ما وقع فيه الآخرون واستطاعوا أن يحققوا في حياتهم كثيرا من الأهداف فالمطلوب أن يعرف الفرد ظروفه جيدا، ويخطط لنفسه انطلاقا من هذا الإدراك، وأن يكون واقعيا … وذلك بأن يضع برامج تنسجم مع إمكانياته وظروفه، وأن يتجنب البرامج الخيالية والمثالية التي يشتط بها الخيال فتتكسر على صخرة الواقع. وعموما فإن مجرد الانتقال من حياة الفوضى وحياة العشوائية إلى حياة النظام والتخطيط والبرمجة والتفكير المستقبلي، هو بذاته إنجاز كبير في حياة المسلم، وتحول جوهري في مسار عيشه أما ما يرافق ذلك من نجاحات وإخفاقات فهذا شيء آخر. ففي البداية سيجد صعوبة كبيرة لحمل نفسه على حياة البرمجة والتخطيط، وسيجد أن نفسه تتفلت من الشروط والالتزامات، ولكن هذا لا يضر، لأنها مشكلات “داخلية” إن صح التعبير تواجه وتعالج، لكن الذي لا يدخل إلى دائرة الملعب لا يقبل منه اللعب أصلا، فالذي لا يتحول من حياة الفوضى والارتجال إلى حياة التخطيط الهادف، فإنه يبقى بعيدا، وهنا ينبغي أن يتسلح المؤمن بالإصرار على كسب هذه المعركة مع الشيطان، وألا يتوقف حتى ينتصر.

إقرأ ايضا : كن مباركا في حلك وترحالك.. توجيه تربوي بمناسبة فصل الصيف

وانتصاره أن يرى التخطيط مستقرا في حياته، وله برنامج يومي وبرنامج أسبوعي وبرنامج شهري وبرنامج سنوي، وإذا مرت به بعض الفترات لم يكن له فيها برامج أو طموحات محددة، فليبادر إلى استئناف الحياة المنظمة والمبرمجة، إن هذا من أصعب الأمور على النفس، والصعوبة تأتي من كل العادات عندما تترسخ يصعب تغييرها، فلو يجد الطفل من يعينه على التخطيط المتجدد لكل مرحلة من مراحل عمره فهو ينشأ في ذلك ويتعود عليه، ولكن عندما يقطع شوطا من حياته بعيدا عن هذا التوجه، فإنه يواجه الصعوبات التي واجهها كل من يريد تغير عوائد نفسه، إلا أن تغيير العوائد بصفة عامة أمر ممكن، ولا يدخل في دائرة المستحيل.

ولهذا ينبغي تجلية هذه المعركة حتى يكون المسلم على أهبة، وأن يكون سلاحه على كتفه إن الله تبارك وتعالى هو الذي حدثنا عن هذا العدو، وهو الذي أخبرنا أن هذا الأخير يسعى بكل وسيلة لنكون جميعا معه في جهنم، والله سبحانه وتعالى هو الذي حدثنا عن طبيعة المعركة التي نخوضها للتحرر من أسره، والخلاص من فتنته وغوايته، فنحن لسنا أمام حكاية أو أسطورة.. فحكمة الله تعالى اقتضت أن يرانا دون أن نراه، إلا أن الخبر الإلهي أغنانا عن الرؤية والمشاهدة، فعندنا خبر صادق من الله عز وجل وعندنا آثار ونتائج لهذه المعركة التي تجري في الصدور، وأسلحتها هي الأفكار والتصورات والتحليلات، والخواطر التي هي مبدأ الإرادة والعزائم والأفعال والعادات. فخوض معركة مع عدو يرانا ولا نراه، ويتفرغ لنا ونشغل عنه، ويعرف من المداخل التي توصله إلى هزيمتنا أكثر مما نعرف، تقتضي أن نكون في حالة استنفار وتأهب مستمر، إن الله سبحانه وتعالى يقول لنا بالحرف: “يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان، كما أخرج أبويكم من الجنة، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما، إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون” فللشيطان جنود يرسلهم  ويكلفهم بمهام محددة، ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي، يقول فيه فيما يرويه عن ربه: “إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين فاجتالتني فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا”.

وسعي الشيطان يكون في اتجاهين كبيرين، اتجاه نحو الشرك واتجاه نحو المعاصي، وخير وسيلة لكسب هذه الحرب هي المبادرة، وقد جاء لفظ المبادرة، لفظ الاغتنام في الحديث النبوي كما جاء لفظ المسابقة والمسارعة في القرآن الكريم ، فكأننا أمام ثروة، هي( الوقت)، وهناك عدو يهددنا في استلابها، ونحن نسابقه عليها، فإذا سبقناه إلى شيء من هذه الثروة صار في حوزتنا وملكيتنا، وإذا سبقنا إلى شيء، أخذه منا وكان ضائعا، وستظهر نتائج المعركة يوم القيامة، فهناك أجزاء من العمر تكون لك، وأخرى تكون عليك، لأنك تكون قد ضيعتها وفرطت فيها فالمعركة مفتوحة ومدتها ما بين البلوغ إلى الممات، وحصيلتها انتصارات وهزائم، ولذلك فعلى المسلم أن يستعين بربه ويسأله أن يؤيده بمدد من  عنده حتى ينتصر على عدوه ، ولا ينبغي الاستهانة بهذه المعركة كما لا ينبغي أن ننحو بها منحى “رمزيا”، بل هي معركة حقيقية وأطرافها أطراف حقيقية، الشيطان وجنوده وابن آدم وإرادته من جهة أخرى.

والإنسان بأصل خلقته مهيأ ليتدبر وليتفكر، لأن الله سبحانه وتعالى ميزه عن الحيوان بالإدراك وبالوعي، فهو يتعقل ويتصور ويتذكر ويتغير ويفكر.. فهو يملك ملكات عقلية تؤهله للنظر والاعتبار والتفكر، إلا أن كثيرا من الناس يعطلون هذه الوظائف باختيارهم عندما يشغلون الوظائف الحيوانية لقلوبهم، متفكرون في منافع الأشياء، ويقفون عند هذا الحد، ولا يتجاوزون التفكير إلى التفكر، ولا يتجاوزون الانتفاع إلى الاعتبار، والسبيل إلى إحياء هذه العبادة القلبية العظيمة، أن تطول صحبة المسلم لكتاب الله، فكتاب الله عز وجل هو المدرب الذي لا غنى لاكتساب الخبرة والمهارة في هذه الرياضة الفكرية والسياحة العقلية التي تتجاوز حل المشكلات وتتجاوز اكتشاف المنافع في الأشياء إلى التساؤل عن مصدرها ومنشئها وغايتها… فعندما تتوقف كل الجوارح عن عبوديتها، فإن القلب يمكنه أن يواصل عبوديته، وقد قال بعض الصالحين:” من كانت له فكرة كان له في كل شيء عبرة”، فالنبتة الصغيرة التي يمر بها في جنب الطريق فيها عبرة، واختلاف الوجوه والألسنة في السوق فيه عبرة، وعندما يرفع بصره إلى السماء في الليل أو في النهار له عبرة، وعندما يرتد ببصره إلى نفسه، وإلى عينه وإلى أذنه، إلى أصبعه إلى بصمته إلى ظفره، فإن له في ذلك عبرة، فلا يحتاج الأمر إلى أكثر من انتباه وتوجه وإقبال وإلا فكل الأشياء هي لوحات تشهد بأسماء الله عز وجل وصفاته وكلها تحمل توقيعا واحدا، فالله سبحانه وتعالى جعل مخلوقاته، هي الطريق الذي يوصل إليه، فيبقى على الإنسان ألا يجعلها حجابا يحجبه عن ربه، فمن الناس من يجعل عالم الشهادة طريق إلى الإيمان بالغيب والاستعداد له، ومنهم من يجعل عالم الشهادة حجابا يحجبه عن الإيمان بالغيب و الاستعداد له،ويمكن أن يخصص له المسلم أوقاتا بطريقة عملية، يجلس فيها لهذا الأمر دون غيره، إما داخل البيت أو خارجه أمام شاطئ البحر أو في الجبال أو الغابات… حتى تكون له دواعي هذا التفكر، كما يمكنه أن ينظر في الكتب التي ألفت في عجائب المخلوقات، وغرائب الموجودات، حتى تكون عنده حصيلة معرفية، كلما تذكرها فتحت له مسالك التفكر والتدبر.

الدكتور محمد عز الدين توفيق

 

 

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى