حب الأوطان

من سنة الله تعالى وفطرته في خلقه أن الأوطان محببة إلى القلوب وأثيرة في النفوس، إنها مرتع الصبا ومدرج الخطى وأرض النشأة ومهد التاريخ في مبتداه وملجؤه في منتهاه، وحب الوطن دليل الوفاء لأنه مسقط الرأس وبالوفاء يعرف المحِبونَ بعيدا عن المدعين.

إن كل آدمي له وطن يهواه فهو ما ولد في الجوزاء ولا على سطح الماء ولا على أديم الهواء، وإنما له أرض يحن إليها ويفتديها بالنفيس والغالي، يقول الأصمعي: “ثلاثُ خصالٍ في ثلاثة أصنافٍ: الإبلُ تحنُّ إلى أوطانها وإن كان عهدُهَا بها بعيداً، والطيرُ إلى وكره وإن كان موضعه مجدباً . والإنسان إلى وطنه ، وإن كان غيرُه أكثر نفعاً”، وما من مخلوقٍ إلا وله وطن يأوي إليه من الأخطار ومظان الهلكة، حتى الفواتك من المخلوقات الشرسة التي تؤذي العباد لها أوطان تحن إليها وتأوي فكيف بالإنسان السوي؟

وكل كائن يقدر وطنه ويعرف حقه، ولهذا لا يستغني عنه أبدا، فالحشرة الصغيرة تخرج لرزقها ومآربها في رحلةٍ قد تطول بين الصخور والرمال ثم تعود سراعا إلى وطنها، والدابةُ العجماء تعرف وطنها وتعود إليه بهداية تجل عن الوصف ولا يقر لها قرار إلا عند الوصول إليه، وكذلك مخلوقات البحر وفي رجوعها إلى وطنها آية في العجبِ رغم أن البيئة البحرية تتشابه مع بعضها إلى حدٍ بعيد، إنها حالة فطريةٌ في الأنفس والكائنات حتى مع الأنبياء، قال الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ [القصص:29].

هناك رابط مودة واحتضانٍ بين هذه المخلوقات العجماوات وبين أوطانها، ترجع إليها بعد الغياب وتعرف عنوانها بوحيٍ من هدى الخلاق العليم لها دونما قائد أو ملهم إلا من إلهام الله لها، ﴿ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ (طـه: من الآية 50)، فلا غرو؛ أن يولع الإنسان حبا وهياما بوطنه ويزيد اشتياقه ولوعته عند الغياب.

إن للوطن منزلة عزيزة في أي نفس، ولحبه بقعة من الفؤاد ليست لشيء آخر مهما غلا وعز، ولأحداثه وذكراه ثبات لا تطاله يد النسيان، ومن أجل هذا فهو من صور الإيمان؛ ولهذا هو أغلى من كل الأثمان، ولهذا فإن الوطن يعني الإنسان.

والوطن كلمة لها معنيان؛ أحدهما ذو معنى محدود وضيق، والآخر ذو معنى واسع وكبير؛ فالأول هو الإقليم من الأرض الذي اتَّخذته مجموعة من الناس موضعًا للإقامة والسكن والعيش المشترك، والثاني هو كل مكان من هذه الأرض فيه أخ مسلم يشاركك الوصف والنسبة والدين

وحب الأوطان فطرة تقَاسم الإنسان أنفاسه مهما كانت ثقافته أو دينه، وفي بيانِ هذه الفطرة يقول الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ﴾ [النساء من الآية 66]، لأن فطرة الإنسان السويِّ تقضي أن لا يفارقَ موطنه، بل ويقاتلُ من أجله عند الضرورة قال الله تعالى: ﴿ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾ [البقرة من الآية 246].

إقرأ أيضا: التوحيد والإصلاح تعقد لقاء وطنيا للتعبئة من أجل الترافع المدني لصالح قضية الصحراء المغربية

ولأهمية الأوطان في جانب الهداية فقد بعث الله عز وجل الرسل والأنبياء من قومهم ومواطنيهم لمعرفة أساليب الإقناع ومراعاة أحوالهم وحسن تعهدهم بالدعوة لما يعرفون من طبائعم وأخلاقهم قال الله تعالى: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 65]، وقال تعالى: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 73]، وقال تعالى: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [هود: 84]، فمن حقوق الأوطان على أهلها أن يكون منها هداةٌ ودعاةٌ يهدون العاصي وينبهون الغافلَ ويذكِّرونَ العاقلَ ويُفقِّهُونَ الجاهلَ.

ونبينا عليه الصلاة والسلام أحبَّ وطنَه وشغف به، واستغرب حينما أخبره وَرَقةُ بن نَوْفَل أنه سيُخرِجه قومُه من وطنه، فقال صلى الله عليه وسلم: (أَوَمُخْرِجيَّ هم؟!)، فهو لا يستغرب ردهم لدعوته ورفضهم لرسالته، ولكنه يعجب أن يتمادوا في ذلك إلى درجة أن يخرجوه من وطنه، ويمارسوا عليه هذا النوع من التعذيب النفسي والجسدي والروحي، فطالَما تعلَّقت روحه بشِعاب مكة، ولطالما طوفت بين سككها وضواحيها؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام مخاطبًا الدار التي أحبَّ، والبلد التي هامت بها روحه وأُنشِزت فيها عظامُه، ونبت فيها لحمه: (علمتُ أنك خير أرض الله، وأحب الأرض إلى الله عز وجل، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت).

وقديما كانت العرب إذا سافَرَتْ حملت معها من تربة بلدها تستشفي به عند مرض يعرض، وذكروا أن إسفنديارد اعتل في بعض غزواته، فقيل له: ما تشتهي؟ فقال: شمة من تربة بلخ، وشربة من ماء واديها، واعتل سابور ذو الأكتاف بالروم، وكان مأسورًا بها، وكانت بنت ملكهم قد عشِقَتْه، فقالت له: ما تشتهي؟ فقال: شربة من ماء دجلة، وشميمًا من تراب إصطخر، فغابت عنه أياما، ثم أتَتْه بماء من الفرات، وقبضة من شاطئه، وقالت: هذا من دجلة، وهذه تربة أرضك، فشرب بالوهم، واشتم من تلك التربة، فنقه مِن علته، فلما جاء الإسلام أبان عن صحة ذلك الفعل، وترك عليه لمسته الربانية، فدلَّنا نبينا عليه الصلاة والسلام من ذلك على ترياق عجيب ودواء مجرب، ذي صلة بالوطن وتراب الوطن وهواء الوطن.

وحب الوطن كان دافعا للبعض إلى خدمة العلم، ورفد المكتبة الإسلامية بأروع الكتب وأنفع المصنفات وأجمل التواليف؛ فكتاب الإحاطة في أخبار غرناطة للإمام ابن الخطيب، كان الدافع إليه حبه لغرناطة، وقد ذكر في المقدمة السبب الداعي إلى تأليفه الكتابَ، وهو أن بعض المصنفين أفرد لوطنه تاريخًا؛ كتاريخ مدينة بخارى لمحمد بن أحمد بن سليمان الفخار، وتاريخ بغداد للخطيب أبي بكر أحمد بن علي البغدادي، وتاريخ دمشق لأبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر، وتاريخ مصر لعبدالرحمن بن أحمد بن نواس، وتاريخ مالقة لأبي عبدالله بن عسكر، فداخلته عصبية حب الوطن، فأقدم على كتابة تاريخ لوطنه غرناطة، قدَّم فيه صورة شاملة عن كل ما يتعلق بمدينة غرناطة من أوصاف وأخبار.

ولا غرو؛ أن يكون تراب الوطنِ دواء للسقيم وعلاجا للمريض والمحسود كان تراب الأوطان كالعلاج والدواء، فقد كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يبل أصبعه بريقه ثم يضعه في التراب كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: ( أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقولُ للمريضِ: بسمِ اللهِ، تُربَةُ أرضِنا، بِريقَةِ بعضِنا، يَشفَى سَقيمُنا، بإذنِ ربِّنا ) (صحيح البخاري 5745 عن عائشة رضي الله عنها).

الإصلاح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى