نظرية المعرفة عند “ميرلو بونتي” – نورالدين قربال
هذا عنوان كتاب صدر عن مطبعة لينا الرباط، ونشرته مؤسسة عقول الثقافة للنشر والتوزيع، ومركز معارف للدراسات والأبحاث، الطبعة الأولى 1444ه-2023م.لمؤلفه الدكتور عبد الرحمان اليعقوبي. ويدخل هذا المؤلف ضمن البحث العلمي الجامعي الوطني. وهو بحث في الأسس من خلال قراءة عربية للآخر في المجال المعرفي. والمعرفة حسب المؤلف غير عامة وبريئة فلسفيا. لأنها رؤية إلى الذات والموضوع. وبالتالي فهي نظرية منبثقة من تصور فلسفي للذات الإنسانية في علاقتها بالوجود. ومن ثقافة مؤطرة لهذه الرؤية باستحضار الأبعاد الحضارية والعلمية والاجتماعية. وهذا يناقض منطق العمومية والتجريد والشرطية.
اعتمادا على ما ذكر، الإنتاج المعرفي عند الفيلسوف “ميرلوبونتي” صادر من منظور فلسفي، في سياق أوربي بين الحربين الأولى والثانية أثر في السيرورة المعرفية، والصيرورة الفلسفية اعتمادا على إرهاصات وتأثيرات تاريخية. فهي قراءة لزمان غير زماننا، ولواقع غير واقعنا، ولحضارة غير حضارتنا ولطموح غير طموحنا. فهي قراءة كما نص على ذلك المؤلف ” شئنا ذلك أم أبينا”. أتاحت له فرصة طرح مجموعة من الأسئلة الفلسفية، استهدفت الظروف المساهمة في المعرفة عند “ميرلوبونتي”، وأسس الافتراض المعرفي، انطلاقا من سيرته الذاتية. لذلك كان بحثه في الأسس.
فالفيلسوف “ميرلوبونتي” من مواليد 1908. انخرط في الجيش سنة 1939، اعتمد في تكوينه على التعليم “الفينومنولوجي” على خطى صديقه “جون بول سارتر”. الذي أسس معه مجلة “الأزمنة الحديثة”، والذي اختلف معه حول طبيعة الوجود، فسارتر دافع عن فكرة العدم، وميرلوبونتي نقيض ذلك، وهناك بعد آخر للاختلاف هو البعد السياسي، حيث انضم “سارتر” إلى الحزب الشيوعي في حين أن ميرلوبونتي ظل منظرا لقضايا الإنسان مركزا على الأساس الفينومنولوجي من أجل إنتاج علمي وفلسفي ووجودي. وبذلك رفض تشيء الإنسان انطلاقا من مكون الإدراك الوجودي البنيوي من خلال الوجود في العالم. حيث يصعب الفصل بين الذات والموضوع.
ويقر المؤلف استحالة الفصل بين المناخ الفكري والمعرفي والاجتماعي والحضاري من جهة والنظرية المعرفية للفيلسوف من جهة أخرى. وغالبا ما يطبع تطلعاته بالتجريد والتأمل. وبذلك تتناسل ولادات متجددة للمذاهب الفكرية. ومهما كانت قراءة المؤلف وفية، فإنها تبقى قراءة ضمن شبكة من القراءات بلغة “كريماس”. خاصة القراءات العربية للمعرفة الغربية. وفي هذه الحالة: هل يمكن الحديث عن التشابه والمشترك والاختلاف في إطار الفكر الإنساني المقارن؟
لقد اتسمت فلسفة “ميرلوبونتي” بالغموض. لأنه استهدف بنية الإدراك والوحدة بين الذات والموضوع. وساهمت قراءة المؤلف في فك طلاسيم هذا الغموض من خلال معجم صوفي وظفه الفيلسوف “ميرلوبونتي”. ولا غرو أن هذا الاختيار الصوفي يبرر تجاوز التحديات التي تفوق إكراهات تحمل الإنسان. فهل خلفت الحربان أزمات نفسية ساهمت في فلسفة العبث واللاأدرية؟ إن الاختيار الصوفي يستحضر أثناء العجز. وهذا النموذج الصوفي المعتمد بعيد عن الدين الذي أبعده الغرب أثناء الفهم، والتفسير، والتحليل، والتفكيك.
إن البحث في عالم المعرفة أساس في كل نهضة فلسفية وثقافية أوربية. وخلص المؤلف إلى أن القرن 19 عصر الوضعية في العلم. والإنسانية في الفلسفة، والتجريبية في الفكر الإنساني عامة. واعتبرت الفينومنولوجية مشروعا جديدا لتجاوز الصراع القديم بين الواقعية والعقلانية-المثالية. وهذا حل لأزمة العلم. وهذا المشروع يموقع الإنسان كذات فردية في وضعه الصحيح تجاه المعرفة. فهي تجربة لرفع طغيان الواقعية التجريبية في دراسة الظواهر الإنسانية.
لقد تناول المؤلف علاقة الوجود الفردي بالعالم، النسق الفلسفي والوجودي، المنهج الفينومنولوجي الوجودي في حل إشكالية المثالية والواقعية، دلالات النزعة التجريبية الغنية.
يؤكد المؤلف على أن الاختيارات الفلسفية لميرلوبونتي تتجلى في الكشف عن رؤية فلسفية مؤطرة لعلاقة الذات بالموضوع. ولن يتم هذا إلا بمعرفة علاقة الوعي بالطبيعة-العضوية والسيكولوجية والاجتماعية باعتبار أن الطبيعة مجموعة من الحوادث الخارجية. وهذه العلاقة هي التي تفتح شهية البحث العلمي من أجل تفكيك النظرية المعرفية الفونولوجية-السيكولوجية. هذا المنهج يتجاوز ثنائية المجالية والواقعية، من خلال الكشف عن النقص والضعف والفشل فيها. وذلك بإعادة القيمة للإنسان كذات فردية، وكلية في بناء المعرفة. لكن كيف نؤسس مشروعا فلسفيا وجوديا في ظل عدم اهتمام الوجوديين بأية معرفة تعلو على الوجود العيني للإنسان؟ بلغة أخرى: هل المعرفة سابقة للوجود أم أن الوجود سابق للمعرفة؟ ويقترح “ميرلوبونتي” التعامل مع المعرفة في ارتباطها بالإنسان في وجوده. وليس بطرق صورية مبنية فقط على التأمل وصياغات نظرية.
إنه يربط الوعي بالطبيعة، محاولا تجاوز المتدوال احتراما لفكرة القصدية. وتجلى هذا في اقتحام الفيلسوف هذا البحث دون إحالات إنسانية أو طبيعية أو تيولوجية. رافضا كل انشطارية. لذلك اعتمد المؤلف في سبر أغوار فلسفة “ميرلوبونتي” انطلاقا من الأسس التالية: الفينومنولوجية، السيكولوجية، الوجودية، ومفهوم الوعي، والعالم، ووحدة الذات والموضوع.
نخلص مما سبق أن القراءات العربية لأخرى غربية، تؤسس للإنتاجية. إنها قراءة في الذات من أجل رسم معالم الهوية. وتوضح العلاقة بالغرب. من أجل بناء علم الاستغراب مقابل علم الاستشراق. والغاية هو كسب آليات فلسفية ومعرفية وحضارية. وهذا أفق فكري يفرضه المشترك الإنساني. فالبعد الحضاري والإنساني لا يتوقف. فلا تقدم بالاعتماد على ذواتنا الحضارية والتاريخية. ولا تقدم بالاستغناء على موروثنا الحضاري. ويحصل التقدم بإبداع المنهج. وهذا بحث في العبقرية داخل الإنتاج الكوني العام. لأن الإبداع والعبقرية خاصية إنسانية عامة ومتجددة. وفي هذا المقام يحضر التواصل والمثاقفة مما ينمي مجلات العلم والتكنولوجيا والمعرفة والفكر. مع الابتعاد عن التعصب والتقوقع والاستعلاء. والمشترك في المنهج طريق سليم لبناء الرفاه الإنساني.
إن الذي يعطل تفعيل منتوج “ميرلوبونتي” وغيره في بيئتنا هو التخلف الذي يخيم على أحوالنا العلمية والتكنولوجية. وبذلك تتباين القيم ليس بالمفهوم المعياري بل بالمفهوم الدينامي المبدع. ومن توفقوا علينا لأنهم أحدثوا فعالية معرفية، لذلك مفروض علينا أن نفتح التواصل مع الفكر الغربي، لعله يساعدنا على حل بعض الإشكالات العالقة بنا منذ زمن طويل ويطلعوا على بيئتنا المعرفية. ويتم التلاقح الحضاري الذي ينعكس على الرفاه الإنساني.