د محمد البراهمي يكتب : تحرير الوعي في مسيرة التحرير
تعيش الأمة والعالم على وقع الأحداث الدامية والعمليات الإجرامية الممارسة في حق الشعب الفلسطيني في أرض غزة والضفة، تحت أنظار الهيئات الأممية والمنظمات الحقوقية والعديد من الحكومات الغربية والعربية والإسلامية، مع عجز تام في اتخاذ مواقف فاعلة وقرارات آمرة، تمنع هذه المذابح والإبادات الجماعية المستمرة في حق شعب يقاوم لتحرير الأرض والمقدسات.
إننا وإذ نتابع هذه الأحداث بقلوب مكلومة، ونفوس محترقة، وآمال متقدة، ويقين لا يتزحزح في وعد الله بالنصر والتمكين لهذا الشعب المقاوم والممانع، مطلوب منا استلهام عدد من الدروس من هذه الأحداث، والعبر المحفزة على السير في مسيرة التحرير، والتي توجه للمطلوب من كل فاعل في مجال الإصلاح والتغيير، وأهمها ومبتدأها أهمية تحرير الوعي من أسر مخلفات التخلف والقيود الآسرة للفكر والنظر والإرادة، وعي يمكن حصره في مستويين:
1: الوعي الاستراتيجي الحضاري الممانع، المنفك عن الأحداث الجارية دون تغافل، والماجريات المتتالية دون تجاهل، الذي يمَكِّنُ من استبصار المآلات الكبرى، والأدوار المطلوبة من الفاعلين لرسم معالمها، وتوجيهها الوجهة التي تعود على البشرية بالخير والصلاح والرحمة، وعي ممانع لحالات التيئيس والهزيمة النفسية الموروثة من حقب تاريخية وأحداث واقعية استعمارية طالت الأرض والفكر والسياسات والثقافات، وعي مؤطر بالقيم المرجعية، والسنن الربانية، والحقائق التاريخية، المستفيد من الإمكانات المتاحة في الفعل والعطاء.
فالتاريخ والقرآن حافلان بالدروس والعبر والقوانين والسنن، المشكلة للرؤى الاستراتيجية، والموجهة للإرادة الإنسانية والتصرفات البشرية بما يحقق وظيفتها ورسلتها في الوجود، وتجاوز العثرات والعراقيل التي تحول دون ذلك، وهو ما يوجه إليه النص القرآني باستمرار، حيث الحث على السير في كتاب التاريخ والقرآن بنظر متفكر متدبر مستبصر، “قُلْ سِيرُواْ فِى الارض فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَان عَقِبَةُ الَّذِينَ من قَبْلُ ۚ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِين” الروم 42
” قُلْ سِيرُوا فِي الْارْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ “النمل 69، ومثلها من الآيات كثير التي تكشف عن سنة الله في خلقه التي لا تتغير ولا تتبدل إذا توفرت أسبابها، وتحققت شروطها، قال تعالى “سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا “ الأحزاب 62.
ومن أهم الدروس المستخلصة من أحداث غزة أن هذه الأمة قادرة على التحرر والانطلاق من ذاتها وبإمكاناتها، بعيدا عن الارتهان لثقافة الآخر وقيمه وإمكاناته، وذلك حال التمسك بالثوابت، والاستعداد للتضحية، والأخذ بعوامل النهوض العلمية والتقنية في حدود الاستطاعة والوسع، لذلك تتكالب العديد من الأنظمة الغربية والعربية على إجهاض هذه التجربة لقطع كل أمل في النهوض بعيدا عن الغرب بثقافته وسياساته وإمكاناته ومنظومة قيمه.
2: العمل الاستراتيجي الحضاري المقاوم: وهو ثمرة الوعي الاستراتيجي الممانع، والوعي بالسنن واستلهام الدروس والعبر، فلا يمكن للمدخلات الممانعة أن تنتج هزيمة وانكسار في ميدان الفعل والعمل، بل تنتج أفعلا ومشاريع مهيكلة للفكر والممارسة، في مختلف ميادين الثقافة والاقتصاد والسياسة والتربية.. لا ترتهن لردود الأفعال الآنية، والأحداث الجزئية العابرة. فأحداث غزة رسمت معالم أفق استراتيجي ستنعكس آثارها على المشهد الحضاري العالمي وعلى الفاعلين فيه، ما يتطلب من كل مسلم رسالي، وحركة إصلاحية التقاط معالم هذه الأفق وتحويله إلى مبادرات ومشاريع تنعكس آثارها على الفكر والسلوك الفردي والجمعي للأمة، يعيد لها حضورها الثقافي والحضاري في مختلف المجالات والميادين.
لقد رسمت أحداث غزة للفاعلين في العالمين العربي والإسلامي معالم تحول مستقبلي يقتضي من كل رسالي الوعي به وبمتطلباته، وترجمته في ميدان العمل بما يسهم في تثبيت مسار التغيير نحو مجتمعات حضارية ممانعة ومقاومة، مسترشدة بالهدي القرآني وأحداث التاريخ وسننه، ومقاومة لعوام الإحباط والتيئييس، ومجددة في أداوت الفعل والعطاء.