منطق جديد في فهم الصيام عند الإمام سعيد النورْسي – شيروان الشميراني

يَنتقدُ سعيد النورسي (1877-1960 ) رحمه الله، تعامل المسلمين مع صيام شهر رمضان بالاقتصار على الحديث على الوجوب والحلّ والحُرمة، أي المسائل الفقهية لوحدها التي دأب الخطباء والوعاظ على قرآءتها للمؤمنين، فهو يرى في الصيام أسطع الشعائر الإسلامية وأجلها.

وكما هو منهجه في مقاربة الحقائق الدينية، فقد حاول تقديم منطق جديد في فهم الصيام، يتجاوز السطحيات أو عموم الحِكَم المعروفة بأنها شهر تدريب لما يأتي من الشهور المتبقية في السنة، بداية هو يقرر على أن هذه العبادات مما لا تدخل في – المحاكمات العقلية – المشهورة بأنها معقولة المعنى، أي قوانين العقل المجرد وموازينه، القائمة على عِلَلٍ وحِكَم، فمع أن لا شيء في الكون خارج عن حكم ومقاصد إلهية سامية، لكن (القسم التعبدي من الشعائر لا تغيره الحكمة والمصلحة قطعاً، لأن جهة التعبد فيه هي التي ترجح…فلا يمكن أن يقال: إن فوائد الشعائر هي المصالح المعلومة وحدها فهذا مفهوم خطأ، بل إن تلك المصالح المعلومة ربما هي فائدة واحدة من بين حكمها الكثيرة).

 بمعنى ولو أن الامتثال للعبادات تعبدي دون النظر والتفكير هل فيها حِكَم ومصالح أم لا، لكن فيها الحِكم الكثيرة أيضا، لأن الله منزه عن العبث في الأوامر والنواهي والأفعال.

 وعليه يحدد مجالات حِكَم الصوم وفوائده في :-

1-     ربوبية الله وعبودية الإنسان.

2-     الشكر تجاه النعم الإلهية وتجنب الكفران.

3-     حكمته المتوجهة إلى الحياة الاجتماعية.

4-     وإلى الحياة الشخصية.

5-     وإلى تربية النفس وتزكيتها.

أولا: تجلي ربوبية الله سبحانه، وذلك يكون من خلال إعادة توجيه الإنسان للنظر في النعم الكثيرة المتنوعة ونشرها على الأرض كمائدة ممتدة عامرة وإعدادها إعدادا بديعا، حيث البشر خلال الفترات العادية في الأيام يأكلون ويشربون، لكن في رمضان كأنها دعوة تُوَجَّه للجميع وقت الإفطار كجيش منظم في وقت محدد معلوم إلى المائدة الإلهية التي هو سبحانه رتبها لهم وهيئها وفق نظام جديد غير مألوف، وهو يُلبّون الدعوة والنداء تلبية عبودية كاملة تامة.

كأن ربهم يقول لهم حين الإفطار ” تفضّلوا” إلى مائدة الضيافة الكريمة، فهو يبين بهذا الوضع كمال ربوبيته ورحمانيته ورحيميته، والعباد يقابلون تلك الرحمة الجليلة الكلية بعبودية واسعة منظمة عظيمة. فامتناع الإنسان عن تناول الأطعمة في نهار رمضان، يجعله مدركاً لِ( أن هذه الأطعمة ليست ملكاً لي، فأنا لست حرّاً في تناولها، فهي إذن تعود إلى واحد آخر وهي أصلاً من إنعامه وكرمه علينا وانا الآن في إنتظار أمره).

ومن معاني الربوبية المتجلية في الصوم، أن البشر بطبيعته يكره الحدود، وفي التقيد بها يكون مكرهاً خصوصاً إذا كانت تحدّ من حريته فيما تهواه النفس، أي يرغب بنوع من الربوبية والسلطنة في كل شيء، حراً طليقاً كيفما يشاء، لكن الصيام يأتي ويعرفه بحدوده وصلاحياته، ويضع له برنامجاً في التعامل مع المُشَهيات، على خلاف ما يرغب، ( فتبدأ نفس كل شخص بالتفطن في ذاتها في رمضان المبارك …بأنها ليست مالكة بل هي مملوكة، وليست حرة طليقة بل هي عبدة مأمورة).

ثانياً: إن الصيام جوع مؤقت، لكنه حقيقي، ونحن البشر من العادة الفاضلة إننا نقدم الشكر والامتنان لكل من يقدم لنا خدمة ونعمة، فهناك الكثير من الأطعمة النفيسة التي تقدم لنا في الحياة من نظراء لنا، أو من أسباب ظاهرية نتعامل معها، وبالمقابل يكون الشكر وتقديم الهدايا والهبات اعترافا بالجميل الدنيوي، ولا يمكن تجاهل الثمن وعدم دفعه، أي ( نحن ندفع للخدام ما يستحقونه من الثمن ونظل تحت فضلهم ومِنَّتهم بل نبدي لهم من التوقير والشكر أكثر مما يستحقونه).

مع هذا فإنّ المنطق الصحيح هو في عدم نسيان المنعم الحقيقي -سبحانه- تحت ستار الغفلة. فالله يستحق ببث تلك النعم أن نقدم له غاية الشكر والحمد، نِعم الله تعالى له أثمان يطلب منا حتماً دفعها، وتقدير قيمتها، (لذا فإن صيام رمضان المبارك هو مفتاح شكر حقيقي خالص، وحمد عظيم عام لله سبحانه، وذلك لأن أغلب الناس لا يدركون قيمة نعم كثيرة – غير مضطرين إليها في سائر الأوقات- لعدم تعرضهم لقساوة الجوع الحقيقي، وأوضاره) وبذلك يصبح الصوم مفتاحاً للشكر – الوظيفة الحقيقية للإنسان- من جهات شتى.

ثالثاً: يرى النورسي – رحمه الله – أنّ في الصوم حِكَماً غزيرة تتوجه إلى الجانب الاجتماعي لحياة الإنسان، منها – التعاون والشعور برابطة الشفقة على بني جنسه-، المجتمع الإنساني ليس على شاكلة واحدة ولا في مستوى واحد من حيث نمط الحياة والمعيشة، فهم شرائح وطبقات، لكن غالباً ما لا يشعر الإنسان بحاجة رفيقه ما لم يشعر هو بنفسه بتلك الحاجة شعوراً حقيقياً، ليكون له الدرس العملي والتعليم في فهم حياة وحاجات الآخرين، وهنا يأتي دور الصيام الذي يجعل الإنسان مضطراً لإذاقة النفس مرارة الجوع وحرارة العطش، وإذا كان في المجتمع أغنياء – ممن يجدون الفائض من النعم – وفقراء – ممن يحتاجون إلى تلك النعم-، فقد أمر الله تعالى الأغنياء لمدّ يدِ المعاونة لإخوانهم الفقراء، لكن طبيعة البشر المُهمِلة قد لا تجد الدافع القوي لهذه المعاونة، فالأغنياء ( لا يستطيعون أن يستشعروا شعوراً كاملاً حالات الفقر الباعثة على الرأفة، ولا أن يحسّوا إحساساً تاماً بجوعهم إلا من خلال الجوع المتولد من الصوم) وحاجة الصائم إلى شربة من الماء النقي الصالح لإرواء العطش، ويكون هذا الشعور فاعلاً مؤثراً تحديداً في أوقات الشدة وأيام الحرّ القائظ.

رابعاً: إن الهيكل المادي لتنفيذ وتفعيل الصوم هو الجسد الإنساني، لكنه لا يقتصر على الجانب المادي فقط بالامتناع عن مألوفات الحياة، وإنما مع هذا يتعامل مع الروح مع القلب والعقل مع الجسد في تطبيق كلي جامع لأمر الصيام، وكل ذلك يترك أثراً لا ينكر في عمق الإنسان، فيساعده على التراجع عن قناعات وممارسات تعود عليها قبل رمضان، حيث إن الغفلة عن حقيقة النفس الإنسانية وقدرتها المحدودة تجعل من صاحبها يتوهم ( أن وجودها من فولاذ وأنها منزهة عن الموت والزوال وأنها خالدة أبدية) وتنسى أن الجسم من لحم وعظم يتحلل بسرعة في التراب مادة الجسد الأصلية، ولهذا يَنقَضّ الإنسانُ على ملذّات الدنيا، ويرمي نفسه في أحضانها حاملة “النفس” حرصاً شديداً وطمعاً هائلاً، وطبيعة الدنيا هي أن الإنسان عندما يرمي نفسه في حضنها تنسى النفس خالقها ( وتهوي في هاوية الأخلاق الرديئة).

فالصوم يوجه النفس الى التهذيب والأخلاق إلى التقويم وجعلها تتخلى عن العشوائيات، لأن الإنسان مهما كان عاتيا يشعر في أوقات الصيام بالضعف والعجز والفقر (فبوساطة الجوع يفكر كل منهم في نفسه وفي معدته الخاوية ويدرك الحاجة التي في معدته فيتذكر مدى ضعفه ومدى حاجته إلى الرحمة الإلهية…متخلياً عن فرعنة النفس).

والصيام كذلك تدريب على الفضائل النفسية والسلوكية، فهي دورة مركزة، من خلالها يكون الإنسان جاهزاً للتخلي عن الصفات الذميمة والتحلي بنقائضها الجميلة، ( فمثلاً: يروض الإنسان لسانه على الصوم من الكذب والغيبة والعبارات النابية ويمنعها عنها ويرطب ذلك اللسان بتلاوة القرآن الكريم وذكر الله سبحانه …ومثلاً: يغض بصره من المحرمات ويسد أذنه عن الكلام البذيء، ويدفع عينه إلى النظر بعبرة وأذُنه إلى سمع الكلام الحق والقرآن الكريم ويجعل سائر حواسه على نوع من الصيام)، فهو تعديل للسلوك المنحرف والمائل عن الصراط المستقيم، لأجل ذلك أصبح الإنسان مكلفاً بالصوم كي لا يَلِجَ في الحاجات الحيوانية.

خامساً: إن من أجمل تعبير قرأته عن الصيام للنورسي وغيره في مقاصده الشخصية للصائم، هو ما يقوله النورسي ب ( الِحمية المعنوية)، فالعادة في الحديث دائماً هي عن “الحمية المادية” الثابت طِبّاً، لكن الحمية المعنوية بحاجة الى الالتفاتة من الصائم ليؤدي الصوم دوره في الحياة الروحية، يشرح النورسي ذلك ويقول ( إذ كلما التهم [ الإنسان] ما يصادفه دون النظر إلى ما يحلّ له ويحرم عليه تسممت حياته المعنوية وفسدت) لكن في ( رمضان المبارك تعتاد النفس على نوع من الحمية بوساطة الصوم وتسعى بجد في سبيل التزكية والترويض وتتعلم الطاعة والصبر).

 ومن معاني الحمية المعنوية أيضاً عند النورسي، هي إعطاء المجال للأعضاء المرتبطة بالمعدة وفسحة من الوقت للتفكير بما يتوجب عليها من مهام من غير الانشغال بأمور الأكل والشرب، وبذلك تفكر أولئك العمال والخدم [ للمعدة] بعباداتها الخاصة، ف (بحلول شهر رمضان يدرك أولئك العمال أنهم لم يخلقوا لأجل ذلك المصنع وحده…لذلك ترى المؤمنين في رمضان المبارك ينالون مختلف الأنوار والفيوضات والمَسرّات المعنوية).

فالصيام في رمضان نقلة إنسانية كبرى، ينقل الإنسان بعقله وروحه وجسمه، بقلبه، مادياته ومعنوياته، من حال إلى حال، كما أنه (أشبه ما يكون بمعرض رائع للتجارة الأخروية أو هو سُوق في غاية الحركة والربح …وهو كالغيث النازل في [شهر] نيسان لإنماء الأعمال وبركاتها) وليس أدلّ على ذلك نزول القرآن فيه وما يكسبه المؤمن من حروف الآيات التي يقرأها في ليل رمضان ونهاره، وخلق الاستعداد النفسي والقلبي للاستماع إلى الخطاب الإلهي السامي.

 يرى النورسي أنه عندما يعزّ علينا أنفسنا، ونهمل الأمر الإلهي بالصيام شهراً واحداً في السنة فإن اللطمات الربانية تصيبنا، والناس كلهم لاشتراكم في الخضوع للفكر المادي والحرية الحيوانية.

المصادر:

(الكلمات، المكتوبات، سيرة ذاتية) من رسائل الإمام سعيد النورسي.

وكل ما وضع بين هلالين هو نقل حرفي لكلامه.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى