مراجعة مدونة الأسرة.. آمال ومحاذير

بدأ النقاش حول الإشكالات والنقائص التي عرفها تنزيل مدونة الأسرة منذ سنوات غير قليلة. وبينما تركزت دعوات البعض من الممارسين والمختصين على معالجة تلك الإشكالات التي كشفها تطبيق المدونة على مدار سنوات طويلة؛ وهي إشكالات مسطرية قضائية، وفي بعض البنود التي تحتاج للمراجعة ضبطا وتدقيقا وتبسيطا، اتجهت دعوات آخرين إلى المطالبة بإعادة النظر عمليا في الرؤية أو المرجعية التي تؤطرها، وليس فقط حذف بعض بنودها.

ومن المطالب التي كشفت ذلك، المطالبة بتغيير لغة المدونة بدعوى أنها لغة لا تواكب العصر، ويقصدون بذلك تغيير لغتها الشرعية والفقهية، وذلك بالتزامن مع ضغوط منظمات دولية تحت يافطة الأمم المتحدة، بحجة الانسجام مع القوانين الدولية والقيم “الكونية”، مما خلق تخوفات وسط شرائح واسعة داخل المجتمع المغربي من هذا التوجهات.

في هذا السياق جاءت دعوة جلالة الملك محمد السادس لمراجعة مدونة الأسرة في خطاب العرش بعد عشرين سنة من اعتمادها، حدد فيها الإطار المرجعي والمنهجي للمراجعة باحترام ثوابت الشريعة الإسلامية والثوابت الوطنية والقيم المغربية الأصيلة، وأكد على ذلك في خطاب افتتاح الدورة الثانية للبرلمان الحالي وفي الرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة، وظهر بوضوح أن الأمر لا يتعلق بمراجعة جذرية للمدونة، ولا بإعادة النظر في هويتها والرؤية التي تؤطرها. وقد خلق هذا التأطير الملكي لورش المراجعة المذكور ارتياحا كبيرا وآمالا باتجاه المراجعة للإشكالات الحقيقية التي تعاني منها الأسرة المغربية بمقاربة تشاركية.

لكن مذكرات بعض المنظمات والمؤسسات ومنها مؤسسات تابعة للدولة، كشفت أنها تقدمت بمطالب لا تختلف كثيرا عن توصيات من مؤسسات تابعة للأمم المتحدة قدمت للدولة المغربية ورفضتها، ويتعلق الأمر بمذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، من قبيل حذف مانع اختلاف الدين في الزواج بدعوى أن التنصيص على أن اختلاف الدين من موانع الزواج المؤقتة يخالف الدستور والاتفاقيات الدولية، وحذف الاستثناء الوارد في المادة 20 وما يليها من مدونة الأسرة المتعلقة بزواج القاصر، وحذف المادة 400 “كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة ، يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف”.

وتكشف هذا المطالب الذي تقدمت بها كذلك جمعيات نسائية ومنظمات توحدها نفس المرجعية الإيديولوجية، رغبة في سلخ مدونة الأسرة عن المرجعية الإسلامية ونزع الطابع الديني عن الزواج والأسرة، والحال أن المغاربة اختاروا المذهب المالكي منذ أكثر من 12 قرنا مذهبا رسميا للدولة المغربية، وبقي وما يزال تعبيرا عن الوحدة المذهبية الدينية والأصالة الحضارية للأمة المغربية.

هذه المطالب وغيرها أحيت التخوفات من جديد، ليس لوجود تنوع في المذكرات، والمقترحات وحتى “المرجعيات”، فذلك أمر فيه تنوع وغنى وليس جديدا على الثقافة المغربية، ولكن التخوفات تتعلق بمطالب تريد اجتثاث كل ما يمت للشريعة وللفقه وللغة الشرعية والفقهية في المدونة، وتحويلها لقانون مدني عادي لا هوية له ولا دين.

ورغم أن الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة أنهت مرحلة الاستماع للهيئات والمنظمات والأحزاب، خرج وزير العدل باعتباره العضو في الهيئة المذكورة عن الحياد المطلوب، ونظم اجتماعا يوم 18 يناير 2024 مع مجموعة من المنظمات النسائية، وبرر ذلك بالتشاور، الأمر الذي توجس منه كثيرون باستحضار خرجاته الإعلامية السابقة حول الموضوع.

وفي هذا السياق، لم تخرج فقط عدد من الهيئات المدنية والحقوقية والسياسية، تحذر من خروج تعديلات مدونة الأسرة المقبلة عن إطار المرجعية الإسلامية، والخطاب الملكي المؤطر لمحددات مراجعة المدونة، بل سبق لعدد من الخبراء والمحامين والقضاة والمختصين والعلماء، أن نبهوا في ندوات متعددة لخطورة تداعيات بعض المطالب؛ التي تصر عليها بعض الجمعيات والمنظمات على الأسرة المغربية، وبالتالي المجتمع المغربي وهويته وخصوصياته. ونكتفي هنا فقط بتنبيه العلامة مصطفى بنحمزة بأن الأمر يتعلق بقانون يهم استقرار المجتمع وتماسكه، وليس قانون يتعلق بالضريبة أو ما يشبهها، محذرا من أن سعي البعض لاجتثاث المرجعية الإسلامية من مدونة الأسرة بأنه الفوضى بعينها.

وقال عضو المجلس العلمي الأعلى في يوم دراسي حول “مدونة الأسرة وأفق التعديل” بمدينة الدار البيضاء ” هناك من يريدون اجتثاث الشريعة ليدخلوا في الفوضى، والمغاربة لن يقبلوا بذلك، ولن يكون لأي قانون يخالف الذهنية المغربية؟ أي قيمة وأي اعتبار عند الناس”.

وموقع “الإصلاح” إذ يطرح هذا الملف من باب المساهمة في النقاش العمومي، يؤمن أن المغرب العريق الشامخ في التاريخ بثوابته الدينية وخصوصياته الحضارية، سيبقى كذلك مهما سعى الساعون للمس بتلك الثوابت، لأن للبيت رب يحميه.

موقع الإصلاح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى